أوروبا على الهامش!
382 Views

أوروبا على الهامش!

وصلت مكانة أوروبا في سباق التكنولوجيا العالمي إلى منعطف حرج، حيث تواجه القارة موجة كبيرة من الضغوط الخارجية ونقاط الضعف الداخلية التي تهدد استقلاليتها الاستراتيجية وتدفعها إلى دور ثانوي. في ظل المشهد التكنولوجي المتسارع اليوم، تُشكل الريادة في مجالات كالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وشبكات الجيل السادس (6G)، وتقنيات الطاقة النظيفة، توازن القوى في النظام الدولي. لم تعد هذه المجالات مقتصرة على المختبرات أو الصناعات المحددة؛ بل أصبحت المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي والقوة العسكرية والمرونة الاجتماعية. وبينما تعزز الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تعاونهما في هذه المجالات، تُواجه أوروبا خطر التهميش. إذا لم تتحرك القارة الخضراء بسرعة وتنسيق مطلوبين فقد تتحول من لاعب رئيسي في الابتكار العالمي إلى لاعب متفرج متخلف عن المنافسة العالمية.

لقد أثارت الشراكة المتنامية بين واشنطن ولندن مخاوف جدية بشأن المكانة الاستراتيجية لأوروبا. و أدت الاتفاقيات بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ولا سيما ميثاق ازدهار التكنولوجيا بقيمة 350 مليار دولار في سبتمبر 2025، إلى إنشاء مركز ابتكار قوي في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وتقنيات الطاقة وحتى اتصالات شبكة الجيل السادس. تتضمن الاتفاقية مشاريع مشتركة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي وأجهزة الكمبيوتر الكمومية من الجيل التالي والمشاريع النووية المدنية، مدعومة بالتزام بقيمة 42 مليار دولار للقطاعين الطبي والطاقة النظيفة. إن تركيز الاتفاقية على معايير التقنيات الناشئة يضع البلدين في صدارة الابتكار اللاسلكي. تعتمد الاتفاقية التي تم توقيعها خلال زيارة الرئيس ترامب إلى المملكة المتحدة، على الشراكات القائمة وتخلق نظامًا بيئيًا مغلقًا من شأنه تسريع البحث والتطوير والتسويق.

بالنسبة لأوروبا، فإن هذا يمثل خطر التهميش حيث تمثل ميزانية الكم للاتحاد الأوروبي 5٪ فقط من الاستثمار الخاص العالمي، بينما اجتذبت الولايات المتحدة أكثر من 50٪. وبدون تدابير مضادة تخاطر أوروبا بالاستبعاد من التطورات التي ستشكل مستقبل الصناعة.[1]

ومع ذلك فإن التحالف بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يتجاوز البحث أو التعاون الصناعي؛ لقد أصبح شبكة ابتكار متكاملة بين الجامعات والقطاع الخاص وصناعة الدفاع. يمكن لهذه الشبكة أن تُشكّل الأسواق العالمية وهياكل الأمن لعقود قادمة. تواجه أوروبا بسبب نهجها المُجزّأ والمتناقض أحيانًا تجاه الابتكار والتنظيم، خطرًا حقيقيًا بأن تصبح متفرجة. ستكون العواقب وخيمة على أوروبا. و ستفقد نفوذها في وضع معايير التكنولوجيا وسلاسل التوريد وحتى المفاوضات الأمنية وستُجبر على اتباع قواعد وضعها آخرون.[2]

من المزايا النسبية لأوروبا قدرتها على تصميم أطر تنظيمية شاملة وقائمة على الأخلاقيات. وتُظهر مبادرات مثل قانون الذكاء الاصطناعي، وقانون الخدمات الرقمية وقانون الأسواق الرقمية التزام أوروبا بدمج الابتكار مع الأخلاقيات وحماية المستهلك. ومع ذلك لن تكون هذه اللوائح فعّالة إلا إذا طُبّقت بسرعة وكفاءة. فالتأخيرات البيروقراطية قد تُفقد اللوائح الأوروبية فعاليتها قبل تطبيقها. إن تسريع اعتماد القوانين وتطبيقها، بما في ذلك قواعد اختبار الابتكارات في ظروف مُحكمة، من شأنه ضمان النمو وتوفير الاستقرار القانوني. وبهذه الطريقة ستتمكن أوروبا من أن تصبح مرجعًا عالميًا في الحوكمة الأخلاقية والقانونية للتكنولوجيا.[3]

بالإضافة إلى ذلك ستحتاج أوروبا إلى أن تكون أكثر نشاطًا في مجال الدبلوماسية الرقمية للحفاظ على مكانتها. يُعدّ الرصد المستمر للتعاون بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أمرًا أساسيًا لتحديد التغيرات في التوازن التكنولوجي في الوقت المناسب. ولا ينبغي أن تقتصر آليات مثل مجلس التجارة والتكنولوجيا بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على منتديات النقاش؛ بل ينبغي أن تُصبح أداةً لمواءمة الاستراتيجيات والدفاع عن السيادة التنظيمية لأوروبا. كذلك فإن بناء تحالفات رقمية مع دول ذات توجهات متشابهة يمكن أن يعزز دور أوروبا كوسيط وواضع للمعايير. [4]

من المهم ملاحظة أن جوهر الابتكار يكمن في الإنسان ورأس المال. تواجه أوروبا "هجرة الأدمغة"، حيث ينتقل العديد من كبار العلماء والمهندسين ورواد الأعمال إلى الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة بحثًا عن فرص مالية ومهنية أفضل. لمواجهة هذا التوجه، تحتاج أوروبا إلى تصميم مسارات هجرة سهلة وجذابة للمواهب العالمية، مع توفير فرص تنافسية لقوتها العاملة المحلية. يتطلب هذا استثمارًا مستدامًا في البحث والتطوير بالإضافة إلى إنشاء أنظمة استثمارية جريئة قادرة على منافسة وادي السيليكون. فبدون موارد بشرية ومالية كافية، ستبقى طموحات أوروبا في مجال التكنولوجيا المتقدمة حبرًا على ورق.

وخارج حدودها الداخلية ينبغي على أوروبا النظر في إنشاء كتلة تكنولوجية أوسع. ومن شأن توسيع التعاون البحثي مع آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أن يعزز مكانة أوروبا في وضع المعايير العالمية. ومن شأن هذا التعاون أن يزيد من قدرتها على الابتكار، ويربط أوروبا بشبكات المعرفة والإنتاج المتنوعة، ويجعلها جسرًا بين أمريكا الشمالية والاقتصادات الناشئة. يتطلب تحقيق هذا الهدف الاستثمار في التعاون الإنمائي ونقل التكنولوجيا والمشاريع المشتركة، إلا أن تحقيقه قد يكون حاسمًا لبقاء أوروبا الاستراتيجي[5].

تمر أوروبا اليوم بمنعطف تاريخي. إذ يعزز التحالف الأمريكي البريطاني دوره كمركز عالمي للابتكار، بينما توسّع الصين قدراتها التكنولوجية والصناعية بوتيرة غير مسبوقة. إن خطر تحول أوروبا إلى لاعب مهمش حقيقي وخطير. وللتنافس بفعالية يجب على أوروبا تسريع وتيرة التنظيم، والسعي بنشاط إلى الدبلوماسية الرقمية والحفاظ على رأس المال البشري والمالي وبناء تحالفات دولية واسعة. وفي الوقت نفسه يجب عليها الحفاظ على قوتها الفريدة و الجمع بين التقدم التكنولوجي والحوكمة الأخلاقية.

ومع ذلك لن ينجح هذا التوازن إلا إذا تحقق بسرعة. فإذا فشلت أوروبا في التكيف مع الظروف المتغيرة للنظام العالمي فإنها ستنحرف حتمًا عن الحافة التكنولوجية وتصبح طرفًا فاعلًا هامشيًا. وللحفاظ على سيادتها ونفوذها يجب على أوروبا التحرك الآن وترسيخ مكانتها كلاعب محوري في مستقبل العالم التكنولوجي.



أمين مهدوي

[1] UK and US Seal Tech Pact With £31 Billion AI and Quantum Push
[2] Memorandum of Understanding Between the Government of The United States of America and the Government of The United Kingdom of Great Britain and Northern Ireland Regarding the Technology Prosperity Deal – The White House
[3] A new tech race is on. Can Europe learn from the ones it lost? – POLITICO
[4] How Europe can catch up in the AI race in biotech
[5] Talent Partnerships - European Commission
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال