دخلت الحرب الأوكرانية عامها الرابع حتى هذا العام 2025 وقد أحدثت تغييرًا جذريًا في سياسة الأمن الأوروبي، لا سيما فيما يتعلق بالردع النووي ضد روسيا. حيث أجبرَ استخدام موسكو الاستراتيجي للتهديدات النووية أوروبا على إعادة النظر في اعتمادها المفرط على الولايات المتحدة واستكشاف خيارات أخرى لأمنها.
شكّلت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022 نقطة تحول عندما أصبحت الإشارات النووية عنصرًا أساسيًا في حرب موسكو الهجينة. رفع الرئيس بوتين مستوى التأهب للقوات النووية الروسية في بداية الصراع وكان الخطاب اللاحق مثل التهديدات المتعلقة بتسليم الأسلحة الغربية، يهدف إلى إثارة القلق وزعزعة وحدة حلف شمال الأطلسي. بحلول عام 2024 عدّلت روسيا عقيدتها النووية وخفّضت حدود استخدامها ردًا على الهجمات التقليدية التي تُعتبر تهديدات وجودية. غيّر هذا النهج القائم على "تكثيف الهجمات للحد من الهجمات" الحسابات السياسية؛ إذ تردد القادة الأوروبيون في تزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة خوفًا من التصعيد. تشير تحليلات الخبراء المختلفة إلى أن هذه التهديدات قد قللت من التدخل المباشر لحلف الناتو.[1]
في الواقع اعتمد الأمن النووي لأوروبا بشكل تقليدي على ردع أمريكي واسع النطاق، والذي يشمل أسلحة تكتيكية منتشرة في دول مثل ألمانيا وتركيا. ومع ذلك فإن عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة زادت من الشكوك. وانتقدت إدارة ترامب السابقة سياسة الإنفاق الضخمة للناتو وأشارت إلى الدعم المشروط، وهو ما يتسق مع تحول الولايات المتحدة إلى تهديدات من الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. تُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة قلقًا كبيراً بين الخبراء من أن عدم التزام الولايات المتحدة قد يخلق "فجوة ردع" ويترك أوروبا عرضة للعدوان الروسي. لقد خلق هذا عدم اليقين تحولًا استراتيجيًا. وكما يشير التحليل حتى لو كان الانسحاب الأمريكي الكامل غير مرجح فإن عدم اليقين الناتج يتطلب بدائل لتجنب الشلل الاستراتيجي.[2]
لمواجهة هذا التحول تستكشف أوروبا عدة سبل وتمتلك فرنسا وبريطانيا القوتين النوويتين الوحيدتين في أوروبا ترسانات يبلغ مجموعها حوالي 515 رأسًا حربيًا، فرنسا لديها 290 رأسًا معظمها غواصات، وبريطانيا لديها 225 رأسًا على أنظمة ترايدنت (نوع من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات). يشمل تعزيز هذه الأنظمة التحديث مثل ترقية صاروخ ASMP-A الفرنسي وغواصات فئة Dreadnought البريطانية.
تجدر الإشارة إلى أن التنسيق الاستراتيجي قد تقدم بشكل كبير: يُلزم إعلان نورثوود الصادر في يوليو 2025 باريس ولندن بمواءمة مواقفهما النووية ضد "التهديدات الخطيرة" لأوروبا، بما في ذلك الدوريات المشتركة المحتملة وتبادل المعلومات، مع الحفاظ على الاستقلالية التشغيلية لكل دولة. تشكلُ المناقشات الأوسع "مظلة نووية أوروبية"، حيث تقدم القوات الفرنسية والبريطانية ضمانات للحلفاء الأوروبيين، ربما من خلال مجموعة التخطيط النووي التابعة لحلف الناتو أو أطر الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك فإن التحديات عديدة منها مخاطر الانتشار، والتكاليف الباهظة (التي تُقدر بما يتراوح بين 100 و200 مليار يورو للترسانة الكاملة)، والاختلافات السياسية، حيث تُبقي فرنسا قواتها خارج حلف الناتو. وفي حين أنه من الممكن نظريًا أن تمتلك أوروبا مظلتها النووية الخاصة، فإن إيجاد بديل موثوق للردع الأمريكي يتطلب تكاملًا عميقًا وهو أمر لا يزال بعيد المنال نظرًا للمخاوف بشأن السيادة الوطنية واختلافات الرأي داخل أوروبا.[3]
بالإضافة إلى الطاقة النووية يُعزز الاتحاد الأوروبي ردعه متعدد المستويات من خلال استثمارات كبيرة. في مارس 2025 توقع الاتحاد إنفاق 500 مليار يورو على الدفاع على مدى العقد المقبل مع أولويات مثل الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل (مثل توسيع مبادرة درع السماء الأوروبي لتشمل 21 عضوًا)، والمرونة السيبرانية ضد القراصنة الروس مثل الهجمات على شبكات الطاقة والذكاء الاصطناعي للطائرات بدون طيار ذاتية التشغيل والتحليلات التنبؤية لسلوك الخصم.
كما يُخصص صندوق الدفاع الأوروبي 8 مليارات يورو للفترة 2021-2027، وسينفذ مشاريع مشتركة في مجال الأنظمة ذاتية التشغيل والحوسبة الكمومية. تُنعش الصناعات الدفاعية من خلال الاستراتيجية الصناعية الدفاعية الأوروبية بهدف الوصول إلى نسبة 50% من المشتريات داخل الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030 لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. وتُدمج هذه الجهود كما هو موضح في تقارير برلمان الاتحاد الأوروبي، مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لخلق مستويات من المرونة في مواجهة التهديدات الهجينة على الرغم من استمرار وجود فجوات في الميزانية ونقص في التكامل الصناعي.[4]
في الواقع تُظهر العلاقات الثنائية مثل الاتفاق الأنجلو-فرنسي، الإرادة الجماعية لأوروبا لاستعادة قوتها العسكرية وإرسال إشارة وحدة إلى موسكو. وتُسهّل قمة الناتو في فيلنيوس عام 2023 ومبادرات الاتحاد الأوروبي مثل مبادرة التعاون الهيكلي الدائم (PESCO) القدرات المشتركة. ومع ذلك وكما يقول المحللون صحيح أن هذه الخطوات تُعزز الردع ضد روسيا لكنها تتطلب تدخل الولايات المتحدة لمنع الاتحاد الأوروبي من الانقسام.[5]
يوصي السياسيون الأمريكيون ومراكز الفكر مثل هيريتدج ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بأن تُسرّع أوروبا من وتيرة تحديث ترسانتها النووية وأن تنظر في نشر أسلحة تكتيكية لاستجابات مرنة. في ولاية ترامب الثانية، تشمل المقترحات تحديث الطائرات ذات القدرات المزدوجة مثل إف-35 ونشر أنظمة غير استراتيجية على الحدود الشرقية لحلف الناتو لردع التصعيد مع روسيا. تتماشى هذه المقترحات مع دعوات "تقاسم الأعباء" وتشجع أوروبا على استكمال المظلة الأمريكية بقدرات محلية، على الرغم من أن المنتقدين يشيرون إلى مخاطر الانتشار.[6]
بالإضافة إلى ذلك أججت الحرب في أوكرانيا الجدل حول الردع النووي في أوروبا. خيارات مثل تعزيز القدرات النووية لفرنسا والمملكة المتحدة، والتنسيق الاستراتيجي، أو مظلة نووية مشتركة مطروحة على الطاولة. في الوقت نفسه يوفر الاستثمار في الطاقة التقليدية والتقنيات الجديدة سبلًا متعددة للردع.
لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه أوروبا هو الافتقار إلى هيكل موحد، وتباين المصالح الوطنية وبطء عملية صنع القرار. إذا لم يُخلق التماسك الداخلي اللازم فلن تصبح أوروبا أكثر عرضة لروسيا فحسب، بل سيتعارض اعتمادها على الولايات المتحدة مع سياسات الاستقلال الاستراتيجي طويلة الأمد. لا يمكن لأوروبا بناء أمنها الحقيقي إلا بالوحدة، وسرعة اتخاذ القرارات، وتنسيق الميزانيات؛ وإلا فقد يؤدي التردد والتأخير إلى مزيد من الضعف مما سيؤدي في النهاية إلى إقصائها من المنافسات الدولية المستقبلية.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال