في ظل مشهد جيوسياسي عالمي سريع التغير، تمر أوروبا بمنعطف حرج وهي مضطرة لإعادة النظر في سياستها الاستراتيجية وخاصة معً الولايات المتحدة. حيث ظهر المستشار الألماني فريدريش ميرتس كشخصية بارزة في هذا النقاش معلناّ تحذيرًا صارخًا من اعتماد أوروبا المفرط على الدعم العسكري والسياسي الأمريكي. تعكس تصريحاته جهدًا عنيقاّ لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا وإعادة تعريف العلاقات عبر الأطلسي، وتعزيز التضامن بين القارات وترسيخ مكانتها في عالم متعدد الأقطاب.
وقد أعرب المستشار الألماني عن قلقه العميق إزاء اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة، لا سيما في ظل التحول في السياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة ترامب. وقال: "هناك شكوك معقولة في أن العلاقات مع الولايات المتحدة ستظل قوية كما كانت في السابق، والآن هو وقت أوروبا".
يؤكد هذا التحذير الاستراتيجي على ضرورة استعداد أوروبا لمستقبل قد ينخفض فيه الدعم العسكري والسياسي الأمريكي. لقد أدت عودة دونالد ترامب بسياساته الخاصة إلى تكثيف المخاوف من أن الولايات المتحدة من المرجح أن تقلل من وجودها العسكري التقليدي في أوروبا أو حتى تسحب القوات التي نشرتها منذ غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022. تعمل دعوة ميرتس كحافز لمراجعة السياسات الأمنية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي، مما يشجع الدول الأعضاء على إعطاء الأولوية للمرونة والاعتماد على الذات.(1)
ولمواجهة هذا الضعف، تسعى أوروبا أيضًا بنشاط إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وتحقيق الاستقلال الاستراتيجي. وقد أعلن ميرتس: "أولويتي القصوى هي تقوية أوروبا في أسرع وقت ممكن حتى نتمكن تدريجيًا من أن نصبح مستقلين حقًا عن الولايات المتحدة". ينعكس هذا الهدف في "الكتاب الأبيض للاتحاد الأوروبي حول الدفاع الأوروبي - التأهب 2030"؛ وهي وثيقة تقدم استراتيجية شاملة لتعزيز إطار الدفاع الأوروبي.
تركز الخطة على معالجة فجوات القدرات ودعم صناعة الدفاع وتحسين التعاون العملياتي بين الدول الأعضاء. من الناحية المالية، خصص الاتحاد الأوروبي 800 مليار يورو، بما في ذلك بند لزيادة الإنفاق الدفاعي بنسبة 1.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي (أي ما يعادل حوالي 650 مليار يورو على مدى أربع سنوات) وقرض بقيمة 150 مليار يورو لمشاريع مثل الدفاع الصاروخي والأمن السيبراني. تهدف هذه المبادرات إلى تقليل اعتماد أوروبا على حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة وإنشاء هيكل دفاعي يمكنه العمل بشكل مستقل (2) .
ومع ذلك، فإن إعادة تعريف علاقة أوروبا بالولايات المتحدة مهمة معقدة يجب أن توازن بين الحاجة إلى الاستقلال وقيمة التعاون عبر الأطلسي.
أقر ميرتس بالدور الحاسم للولايات المتحدة، وخاصة في حل الصراع في أوكرانيا، قائلاً "نعتقد اعتقادًا راسخًا أنه لا يمكننا إنهاء الحرب في أوكرانيا دون مشاركة سياسية وعسكرية أمريكية أكبر". ومع ذلك فإن صعود السياسات الانعزالية في الولايات المتحدة دفع أوروبا إلى السعي إلى تعاون أكثر إنصافًا. كان حزب ميرتس متشككًا في البداية في فعالية حلف الناتو، وأشار إلى أن أوروبا قد تحتاج إلى تصميم هيكل دفاعي جديد. لكن بعد لقائه بالأمين العام لحلف الناتو مارك روته عدّل موقفه قائلاً: "أمريكا أساسية للأمن الأوروبي اليوم ولفترة طويلة قادمة". ويسعى هذا النهج المتوازن إلى الحفاظ على التعاون مع تعزيز قدرة أوروبا على العمل باستقلالية.(3)
علاوة على ذلك يُعد تعزيز التضامن بين القارات أحد الركائز الأساسية للتحول الاستراتيجي لأوروبا. وقد أكدت جهود ميرتس الدبلوماسية، مثل لقاءاته مع إيمانويل ماكرون، على أهمية الوحدة بين الدول الأوروبية. وفي مؤتمر صحفي مشترك تعهد ميرتس وماكرون بتعزيز أمن القارة وزيادة الإنفاق الدفاعي وتوطيد التعاون الفرنسي الألماني، الذي يُعدّ حجر الزاوية في الاتحاد الأوروبي.
كما تُعزز مبادرات الدفاع في الاتحاد الأوروبي التعاون من خلال تشجيع الدول الأعضاء على تجميع الموارد وتنسيق السياسات. يُعدّ هذا التضامن ضروريًا لترسيخ مكانة أوروبا كلاعب رئيسي في عالم متعدد الأقطاب، قادر على مواجهة التحديات الأمنية المشتركة بشكل جماعي. تتماشى رؤية ميرتس مع جهود الاتحاد الأوروبي الأوسع نطاقًا لإنشاء "اتحاد دفاعي أوروبي"، حيث تستفيد الدول الأعضاء من القدرات المشتركة والاستراتيجيات المنسقة. ورغم أن تصريحات ميرتس تُركز بشكل كبير على الولايات المتحدة، إلا أنها تُرسل أيضًا رسالة غير مباشرة إلى قوى عالمية مثل الصين وروسيا. فمن خلال سعيها لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي، تُظهر أوروبا قدرتها على التعامل مع هذه الدول من موقع قوة.
وقد أعرب ميرتس عن قلقه إزاء التقارب المتزايد بين بكين وموسكو، ودعا الصين إلى لعب دور في حل الصراع الأوكراني. يمكن لأوروبا ذات القدرات الدفاعية المعززة والسياسات الموحدة، أن تتفاوض مع هذه القوى على قدم المساواة مما يقلل من الشعور بالضعف.(4)
على الرغم من هذه الجهود الطموحة، تواجه أوروبا عقبات كبيرة. إن استراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة في التعامل مع الدول الأوروبية بشكل فردي بدلاً من الاتحاد الأوروبي ككل، تُخاطر بإحداث انقسامات في وحدة القارة. قد يُقوّض هذا النهج قدرة الاتحاد الأوروبي على تقديم جبهة متماسكة، حيث قد تُعطي الاتفاقيات الثنائية الأولوية للمصالح الوطنية على الأهداف الجماعية. قد تُضعف هذه الانقسامات مكانة أوروبا في الجغرافيا السياسية العالمية، وتُصعّب مواجهة نفوذ قوى مثل الصين وروسيا.
بالإضافة إلى ذلك، قد تُعيق الانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي والضغوط السياسية داخل الدول تنفيذ المبادرات الدفاعية والسعي إلى الاستقلال الاستراتيجي. يعتمد نجاح جهود أوروبا على قدرتها على التغلب على هذه التحديات والحفاظ على نهج موحد.
أخيرًا، تمر أوروبا بمنعطف حرج، وتحت ضغط تحذيرات ألمانيا ومبادرات الاتحاد الأوروبي الدفاعية النشطة، تسعى جاهدةً لتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة. ويُظهر السعي لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي من خلال تعزيز القدرات الدفاعية والتضامن القاري التزامًا ببناء أوروبا مستقلة. إلا أن النهج المزدوج للولايات المتحدة تجاه الدول الأوروبية يُشكل تحديًا خطيرًا قد يُهدد وحدة الاتحاد الأوروبي ويُضعف مكانته العالمية. وبينما تسلك أوروبا هذا المسار المُعقد، يجب عليها إعطاء الأولوية للتعاون والتماسك لضمان أن يُعزز السعي لتحقيق الاستقلال أمنها ومستقبلها الاقتصادي في عالم متعدد الأقطاب لا أن يُهددهما.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال