إخلاء القواعد الأمريكية في عين الأسد وفيكتوريا، إعادة تموضع أم بداية الإنسحاب
مقدمة
في خطوة مفاجئة باشرت الولايات المتحدة بتسريع عملية سحب قواتها من العراق، إذ شرعت في نقل جنودها من قاعدتي عين الأسد وفيكتوريا إلى أربيل وإلى دولة عربية مجاورة. هذه المبادرة غير المتوقعة، التي تسبق الموعد الرسمي المتفق عليه مع الحكومة العراقية بنهاية سبتمبر المقبل تفتح باب الأسئلة حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التغيير الاستراتيجي المفاجئ وما إذا كان يعكس إعادة رسم لخارطة الوجود الأميركي في المنطقة.
رسمياً، كان من المقرر أن تنتهي مهمة التحالف الدولي في العراق بحلول سبتمبر 2025 وفقاً للاتفاق المبرم بين بغداد وواشنطن.[1] غير أن مصادر سياسية أكدت أن الأميركيين أبلغوا نظراءهم العراقيين بقرار تسريع الانسحاب وعدم الالتزام بالجدول الزمني السابق. هذا القرار يفتح قراءات متعددة سنتناولها في هذا المقال؛ هل هو رد فعل لضغوط داخلية أميركية؟ أم نتيجة لتطورات إقليمية وأمنية تجعل بقاء القوات الأميركية في العراق أكثر خطورة من الرحيل؟ وهل تحويل مهمة القوات وخفض التكاليف يتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة!
تجنب وقوع إصابات في صفوف القوات الأمريكية
نتيجة لزيادة التوترات في المنطقة وخاصة خلال حرب ١٢ يوما بين النظام الإسرائيلي وايران أصبحت القواعد الأمريكية في المنطقة أهدافاً مشروعة أمام مجموعات مسلحة تدعم محور المقاومة في العراق وسوريا، وهذا يعتبر المبرر الأمني والسياسي للانسحاب بعد زيادة معدل الهجمات على المواقع الأمريكية والتي تؤدي إلى مخاطر مباشرة على عناصر القوات الأمريكية وعتادها وذلك تبعاً للظروف الأمنية والسياسية في المنطقة، و بالطبع تقليل الوجود في القواعد الحساسة يمكن أن يكون إجراءً وقائيًا لإبعاد القوات عن الخطر المباشر [2].
حيثيات الواقع الميداني توضح أنه مع تكرار الهجمات وتهديدات الجماعات التابعة لمحور المقاومة، يمكن أن يؤدي إلى تقليص الوجود العسكري لتقليل التعرض للإصابات والخسائر المؤسسية لأن ذلك سيؤثر على المعنويات والسمعة أيضاً، وهو ما ينعكس إيجابيًا على صورة الولايات المتحدة داخليًا وخارجيًا.
الاستجابة للضغوط الداخلية والسياسية في العراق
لاشك أن ضغط الرأي العام العراقي ولّد موجة الاحتجاجات والرفض الشعبي للوجود العسكري الأجنبي و دفع القادة السياسيين إلى المطالبة بخروج القوات الأمريكية أو تقليص حضورها وذلك بعد حادثة اغتيال الشهيد سليماني والمهندس .[3]
إن المطالب الجماهيرية والسياسية للعمل على إنهاء الوجود العسكري الأمريكي المباشر يلقى دعمًا من جماعات سياسية ومكونات وطنية ترفض الوجود الأجنبي. كما إن محادثات بغداد-واشنطن قد مهدت الطريق لإعادة ترتيب الوجود العسكري وتحديد مهمة جديدة تتماشى مع الإرادة السياسية العراقية.
الوضع السياسي في العراق أصبح بحاجة لموازنة بين مسألتي السيادة والأمن للحفاظ على السيادة الوطنية بحيث يتقاطع ذلك مع الحفاظ على التعاون الأمني، ما يجعل الانتقال من وجود عسكري إلى تعاون أمني واستشاري خيارًا لاستجابة للضغوط السياسية دون إنهاء التعاون الاستراتيجي كليًا .
تحويل المهمة من التعاون الدولي إلى الشراكات الثنائية
ستتحول المهمة من "وجود عسكري ممتد" إلى "تعاون استشاري وتدريبي" و لا يعني هذا التخفيض أو الإخلاء نهاية التعاون مع العراق، بل إعادة تشكيل المهمة بما يجعلها أكثر تركيزًا على الجوانب الاستشارية والتدريبية. فبعد مسيرة طويلة من التفاهمات والاتفاقيات بين البلدين بات الحديث مؤخراً على أن المرحلة المقبلة ستشهد انتقال العلاقات الأمنية بين العراق ودول التحالف الدولي إلى علاقات ثنائية قائمة على اتفاقيات استراتيجية، سواء مع الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو ألمانيا أو دول الاتحاد الأوروبي.
كما نقلت وكالة الأنباء العراقية الرسمية (واع)، منذ عدة أيام بياناً للسفارة الأميركية في بغداد، أكّدت فيه أن التحالف الدولي في العراق سينتقل إلى شراكة أمنية ثنائية. وقالت السفارة في البيان إنّ "هذا ليس نهاية عمل التحالف الدولي لهزيمة داعش، إذ سيواصل جهوده المدنية بقيادة مدنية على المستوى العالمي". وأضاف أن "مهمة التحالف العسكرية في العراق ستنتقل إلى شراكة أمنية ثنائية أكثر تقليدية"، لافتاً إلى أن "التفاصيل المتعلقة بخططنا وعملياتنا العسكرية ستحال إلى وزارة الدفاع". [4]
خفض التكاليف السياسية والأمنية لأمريكا
لاشك أن تكلفة الوجود العسكري الدائم والممتد للقوات الأمريكية في العراق كان مكلفًا على المستويين السياسي والأمني في ظل تداعيات إقليمية محتملة. و إدارة هذا الملف من خلال التخفيض و تقليل الوجود قد يُنظر إليه كخطوة في إدارة الأزمات وتخفيف التوترات، سواء على الساحة العراقية أو في المحاور الإقليمية والدولية.
إن تقليل الالتزامات العسكرية في العراق يساعد في توجيه الموارد الأمريكية نحو أولويات أخرى في إطار الإستراتيجية الشاملة للطاقة والاقتصاد والتوازنات الإقليمية والإصلاحات التي يقودها الرئيس ترامب من أجل تحقيق شعار أمريكا أولاً .
التوافق مع الاستراتيجية الأمريكية طويلة المدى في الشرق الأوسط
الاستراتيجية الحالية هي احتواء الصين وروسيا، ففي السنوات الأخيرة سعت الولايات المتحدة إلى تقليل الالتزامات العسكرية المباشرة في مناطق حساسة بهدف تركيز الموارد على الردع الاستراتيجي في مواجهة الصين والتهديدات الروسية.
وخفض القوات كجزء من سياسة تقليص الالتزامات في العراق و يمكن أن يكون جزءًا من سياسة أوسع لإعادة توزيع الأعباء العسكرية في المنطقة.
كما إن إعادة تعريف الشراكات الأمنية لابد له من الانتقال إلى نموذج تعاون أمني محدود يعزز من قدرة الولايات المتحدة على دعم العراق خلال إطار أمني أكثر تكيفًا مع التطورات الإقليمية والدولية.
الخلاصة
في نهاية المطاف، يظهر أن تسريع الانسحاب الأميركي لا يعني تخلي واشنطن عن العراق بالكامل، بقدر ما يعكس إعادة تموضع استراتيجي يتيح لها تخفيف الأعباء الميدانية مع الحفاظ على نفوذ سياسي وأمني عبر الشراكات الثنائية.
الانسحاب من قاعدتي عين الأسد وفكتوريا قد يكون خطوة في مسار أوسع يعيد رسم خريطة التواجد الأميركي في الشرق الأوسط، ويضع العراق أمام اختبار حقيقي لقدرة قواته على إدارة المرحلة المقبلة.
تسريع الانسحاب الأميركي من العراق يطرح معادلة معقدة: واشنطن تسعى لتقليص التزاماتها الميدانية دون خسارة نفوذها، بينما تؤكد بغداد جاهزية قواتها وتطرح أولوية جديدة للأمن القومي. لكن ما بين مشروع قانون الحشد الشعبي، والتهديدات المتجددة لداعش، والتوازنات الإقليمية، يبقى مستقبل العراق الأمني رهين قدرة بغداد على إدارة استقلالها من دون الانزلاق في فراغ استراتيجي قد تستفيد منه قوى أخرى.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال