إعادة الانتشار بدلًا من الانسحاب، سيناريو الخداع الأمريكي في العراق
3368 Views

إعادة الانتشار بدلًا من الانسحاب، سيناريو الخداع الأمريكي في العراق

بعد سنوات من الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله أصبحت مسألة استمرار الوجود الأمريكي في البلاد من أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية في المنطقة. فبينما يتحدث المسؤولون ووسائل الإعلام الغربية باستمرار عن "الانسحاب" و"التخفيض"، تشير الأدلة المتاحة إلى أن ما يحدث ليس انسحابًا كاملًا، بل إعادة تنظيم استراتيجي للوجود العسكري وتحويله.

تهدف هذه العملية التي يمكن تسميتها "عملية الخداع"، إلى خفض التكاليف والضغوط السياسية الداخلية والخارجية مع الحفاظ على النفوذ والسيطرة على التطورات الرئيسية في المنطقة.

إعادة الانتشار بدلًا من الانسحاب، نقل مركز الثقل إلى الشمال
يتمثل أهم جانب في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في نقل قواتها من قواعد كبيرة ومعرضة للخطر في وسط وغرب العراق، مثل عين الأسد وفيكتوريا، إلى قواعد آمنة ومحصنة في إقليم كردستان. هذه الخطوة التي تُصوَّر ظاهريًا على أنها تخفيض في القوات وإنهاء للمهمة القتالية، هي في جوهرها إعادة تنظيم عسكرية مقصودة. ومن خلال القيام بذلك، تُبعد الحكومة الأمريكية قواتها عن النيران المباشرة لجماعات المقاومة التي تنشط بشكل رئيسي في وسط وجنوب العراق، وتُخفِّض التكاليف الأمنية واللوجستية للحفاظ على قواعد عديدة.

لا يعني نقل القوات إلى أربيل وقاعدة حرير مغادرة العراق، بل تركيز القوات في منطقة أكثر انسجامًا سياسيًا مع واشنطن وتتمتع باستقرار أمني أكبر. يسمح هذا التعديل للولايات المتحدة بالحفاظ على وجود مستدام مع تحرير نفسها من الضغوط السياسية من الحكومة المركزية في بغداد ومطالب البرلمان العراقي بالانسحاب الكامل. في الواقع تُحوِّل الولايات المتحدة وجودها المُكلِّف والمحفوف بالمخاطر إلى وجود منخفض التكلفة وفعال ومستدام.[1]

إقليم كردستان معقل للنفوذ الإقليمي
يُحقق التركيز الجديد على إقليم كردستان فوائد متعددة لواشنطن. أولًا، يُخفِّض بشكل كبير التكاليف الأمنية لوجودها. ثانيًا، والأهم من ذلك تُعدّ المنطقة بمثابة منصة انطلاق تضع الولايات المتحدة على مقربة شديدة من الحدود الإيرانية والحدود الشمالية لسوريا. يتيح هذا الموقع رصدًا سريعًا للتطورات في بلدين تعتبرهما واشنطن بؤرًا لعدم الاستقرار والاستجابة لها.

بالإضافة إلى ذلك، يضمن الوجود في إقليم كردستان للولايات المتحدة الوصول إلى مصالح شمال العراق في مجال الطاقة، بالإضافة إلى القدرة على مراقبة خطوط الأنابيب وطرق نقل الطاقة؛ وهي مصالح حيوية للاقتصاد العالمي وأمن الطاقة لحلفاء أمريكا الأوروبيين.[2]

أدوات التأثير غير المباشر وحرب الظل
مع تقليص الوجود العسكري العلني، تحولت الاستراتيجية الأمريكية نحو استخدام أدوات التأثير غير المباشر. تشمل هذه الأدوات ما يلي:

1- المدربون والمستشارون العسكريون: لا يزال مئات الجنود الأمريكيين في الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية "مستشارين" و"مدربين". هذا الوجود مع ضمان اعتماد العراق العسكري على المعدات والتدريب الأمريكي، يسمح لواشنطن بالتأثير على العقيدة العسكرية العراقية وقراراتها الأمنية.
٢- العمليات الاستخباراتية والطائرات المسيرة: ستبقى أجواء العراق تحت سيطرة طائرات الاستطلاع والطائرات القتالية الأمريكية المسيرة. تُعد هذه الطائرات الأداة الأمريكية الرئيسية لجمع المعلومات، واستهداف جماعات المعارضة، ومراقبة القوات المنافسة، مما يحافظ على قوة الردع الأمريكية وسرعة استجابتها في العمليات دون الحاجة إلى وجود بري كبير.
٣- النفوذ السياسي والاقتصادي: ستعمل السفارة الأمريكية في بغداد، وهي من أكبر السفارات في العالم، كمركز قيادة دبلوماسي واستخباراتي. ستواصل واشنطن إدارة التطورات الداخلية في العراق والحفاظ على مصالحها في الساحة السياسية من خلال الأدوات الاقتصادية والمساعدة المالية والضغط السياسي.

يسمح هذا النهج المشترك للولايات المتحدة بالحفاظ على نفوذها في مختلف مستويات الحكم والأمن العراقيين دون تحمل مسؤوليات قوة احتلال [3].

التلاعب بالرأي العام العراقي
إن رواية "الانسحاب الكامل" التي تروّج لها وسائل الإعلام الأمريكية والغربية هي في معظمها حرب نفسية ودبلوماسية. والهدف من هذه الرواية هو استرضاء الرأي العام العراقي، الذي يطالب بانسحاب القوات الأجنبية منذ سنوات. ومن خلال خلق انطباع بأن "مطلبهم قد تحقق"، تأمل واشنطن في تخفيف الضغط الشعبي على الحكومة العراقية لطرد القوات الأمريكية بالكامل، وتقليل حدة هجمات جماعات المقاومة. وهذه مناورة خادعة للتقليل من شأن استمرار وجودها وكسب الوقت لتثبيت الصفوف العسكرية الجديدة.

الأهمية الجيوستراتيجية للعراق
العراق أكثر من مجرد ساحة معركة للولايات المتحدة؛ فهو ذو أهمية جيوستراتيجية كبيرة. فموقعه كجسر بين إيران وسوريا ومنطقة الخليج الفارسي بالإضافة إلى مصالحه الواسعة في مجال الطاقة، جعله نقطة محورية. هذه العوامل تمنع الولايات المتحدة من التخلي التام عن العراق. تُدرك واشنطن أن الانسحاب الكامل سيخلق فراغًا في السلطة قد يملأه خصومها الإقليميون، وخاصة إيران. لذلك فإن الحفاظ على قاعدة استراتيجية لمراقبة هذه التطورات وضمان تدفق الطاقة يُعدّ أولوية قصوى.[4]

النفي الرسمي للانسحاب
في 29 آب 2025، نفت السفارة الأمريكية في بيان رسمي أي انسحاب كامل من العراق. يُعد هذا البيان على الرغم من قصره ومحدوديته، تأكيدًا فعليًا على أن واشنطن لا تزال تسعى إلى تعزيز نفوذها في العراق، وأن رواية "الانسحاب الكامل" لم تكن سوى تكتيك إعلامي. يُظهر هذا الإجراء أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى توضيح أهدافها علنًا مفضلةً الإعلان ضمنيًا عن استمرار وجودها.[5]

الخلاصة، أصبح الوجود العسكري الأمريكي في العراق أشبه بلعبة شطرنج معقدة. فبينما تتحرك القطع العسكرية ويبدو أنها خارج اللعبة لم تنتهِ اللعبة بعد. يمثل هذا التغيير الاستراتيجي تحولًا في النهج من وجود عالي المخاطر إلى نفوذ سري، بهدف الحفاظ على القوة والسيطرة في منطقة حيوية لمصالح واشنطن في مجال الطاقة وأهدافها الجيوستراتيجية.


محمد صالح قرباني

[1] https://shafaq.com/en/society/US-redeploys-troops-from-central-Iraq-to-Erbil-in-strategic-shift
[2] https://www.geopoliticalmonitor.com/us-military-redeployment-in-iraq-strategic-withdrawal-or-tactical-shift/
[3] https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/us-support-iraqi-security-forces-challenges-and-future-prospects-under-trump
[4] https://smallwarsjournal.com/2025/08/07/light-footprint-heavy-stakes-the-case-for-staying-engaged-in-iraq/
[5] https://see.news/us-denies-troop-withdrawal-from-baghdad-beginning-saturday
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال