مقدمة
تخوض المنطقة العربية مواجهة معقدة بين قوى إقليمية تسعى إلى إعادة تشكيل توازن القوة، وفصائل مقاومة ترى في سلاحها عنصرًا حاسمًا في الدفاع والردع. منذ سنوات ظهرت عند بعض الحكومات الإقليمية سياسات تُروج لنزع سلاح فصائل المقاومة وحصر السلاح بيد الدولة كما زعمت كخطوة رئيسية لإضعاف محور المقاومة، خاصة في لبنان وفلسطين، مع وجود نفس الأفكار في العراق أيضًا. هذه السياسات، المدعومة من خلال واشنطن والكيان الصهيوني في بعض سياقاتها، تتضمن وعوداً أو شروط وبدائل قد تبدو “آمنة” لكنها تثير جدلاً عميقاً حول شرعية الدفاع عن النفس، والضمانات السياسية، والسلام الإقليمي المنشود، سنناقش في هذا المقال طروحات نزع سلاح المقاومة وأهدافه وتبعات هذا المشروع على محور المقاومة نفسه والمنطقة بشكل عام
.
نزع السلاح مشروع سياسي لإضعاف المقاومة
ضمن الإطار العام لتسويق هذا المشروع يرى مراقبون أن الهدف الرئيس منه هو تقويض قدرات فصائل المقاومة عبر خطوات تبدأ بنزع السلاح أو تضييق الدعم السياسي واللوجستي لها. تُفهم هذه السياسات في سياق إعادة تموضع استراتيجي للشرق الأوسط، حيث ترى أطراف دولية أن إضعاف محور المقاومة يفتح مسارات أقصر لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، حيث ستكون آليات التنفيذ المحتملة، حصر الأسلحة في أطر رسمية وتحت رقابة خارجية، تقليص التمويل الخارجي لفصائل المقاومة، فرض قيود على حيازة الأسلحة والمواد المتطورة، وتقديم بدائل أمنية على شكل طموح و وعود لكنها غير ملزمة في كثير من الأحيان. هذه الآليات تُطرح كإجراءات بناء الثقة لكنها تحمل إشارات إلى تقييد قدرة الفصائل على الردع في مواجهة التهديدات المستمرة.
يُطرح نزع السلاح بذريعة "السيادة الواحدة" أو "سلطة الدولة"، وكأن السيادة تُبنى من طرف واحد فقط، وكأن استقرارًا دائمًا يمكن أن يقوم على تجريد الشعوب من أدوات الدفاع عن وجودها. إنها سردية استسلامية في ثوب قانوني تُروّج لا لسلام، بل لإخضاع طويل الأمد، وتكرّس منطقًا يرى أن الاستسلام هو الثمن الوحيد المقبول للعيش بسلام في نظام عالمي غير عادل.
إن الهدف الجيوسياسي من كل ذلك هو تقليل النفوذ الإقليمي لمحور المقاومة، وتخفيف مخاطر المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني من منظور تلك الدول، الجدير بالذكر ان كثير من الخطط المقترحة لم تُعرض بشكل علني بمستوى واضح من الشفافية، وهذا يفتح باباً للجدل حول أهدافها الحقيقية، وسبل ضمانات الأمن والحقوق السياسية لشعوب المنطقة وحقها في تقرير مصيرها والدفاع المشروع عن أرضها.
تعزيز محور المقاومة وإنكار شرعية نزع السلاح
لابد من أن تُطرح قضية نزع السلاح كخيار مبدئي يتعارض مع حق الدفاع عن النفس، خصوصاً في بيئة تشهد تهديدات خارجية مستمرة وتدخلات سافرة تتعلق بانتهاك السيادة. تعتقد هذه الفصائل أن وجود سلاحها يشكل رادعاً فعّالاً أمام العدو ويضمن وجود صوت سياسي واجتماعي للشعب الذي يرفض الاحتلال ومن حقه أن يكون له قوة تحميه في ظل انكسار الدولة وتخاذل الحكومات من خلال مد يدها للعدو.
الحجج القانونية والسياسية تشدد على أن حق الشعوب في الدفاع عن النفس مكرّس بمبادئ القانون الدولي وبمفهوم الأمن والإنسانية، وأن أي تسليم للسلاح يجب أن يقترن بضمانات سياسية وقانونية، وبالتزامات شفافة من الدول الضامنة. كما تؤكد على أن تفكيك السلاح من دون حل سياسي شامل يترك الشعوب في مواجهة مخاطر جديدة ويقلل من قدرتها على حماية مصالحها.
في لبنان، تُطرح مسألة نزع سلاح حزب الله كمسألة مركزية في الجدال الداخلي حول الأمن القومي والوظائف الأمنية للدولة [1]؛ و في فلسطين ترى كثير من الفصائل أن سلاح المقاومة يشكل اساس وجودها ومن حقها مواجهة الاحتلال، وفي العراق، يكثر الحديث عن سلاح الحشد الشعبي وأن دوره انتهى مع هزيمة داعش، ولكن المخاوف من التدخلات الإقليمية و عودة داعش في ظل بقاء القوات الأمريكية أمر لايشجع على التنازل عن سلاح الحشد وحزب الله العراقي.[2]
نزع السلاح تحقيق حلم العدو
حين يُطرح نزع سلاح المقاومة، إن كان في لبنان أو فلسطين أو العراق لا يكون ذلك ضمن خطة شاملة لنزع أسلحة كل الأطراف، بل كمطلب أحادي يخدم الاحتلال فقط. إنه طرح لا يسعى إلى "سلام" حقيقي، بل إلى تفريغ المنطقة من أي قدرة على الردع، وتحويل المقاومة إلى مجرّد ذكرى رومانسية تُحكى في كتب التاريخ.
الأطراف التي تدعو إلى نزع السلاح سواء من أنظمة سياسية مختلفة أو منظمات دولية لا تملك في معظمها قرار الحرب أو السلم، بل تنطق باسم قوى كبرى تسعى لإعادة صياغة المنطقة وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية. هذه الأطراف تتجاهل أن المقاومة لم تكن خيارًا عدميًا، بل ضرورة فرضتها الظروف الميدانية والإخفاقات السياسية المتراكمة، إن نزع السلاح قرار شعبي قبل أن يكون قرار جماعة تقود الحزب سياسياً وعسكرياً ويعتبر في ظل الظروف الراهنة حلم يتحقق لدى إسرائيل بعد الهزائم التي تكبدتها تاريخيا خلال مواجهاتها مع الحزب في جنوب لبنان وفي فلسطين على يد القوى والفصائل المسلحة أيضا.
الضمانات الوهمية وغياب بديل موثوق
أن أي خطط تُقدم لنزع السلاح غالباً ما تفتقر إلى ضمانات سياسية وقانونية واضحة، وهو ما يجعل التسليم قابلاً للوهم أو الاستغلال السياسي. بدون وجود آليات ضمان حقيقية، تصبح الاتفاقيات مجرد تعهدات لا تُحد من مخاطر العودة إلى العنف أو التوتر.
وخير مثال على ذلك ما حدث في غزة بعد تجريد الضفة من السلاح[3]، وما حدث في جنوب لبنان قبل تحريره، يُظهران بوضوح المعنى الجوهري للسلاح. فحين يغيب السلاح، يُمنع الشعب من القتال أو بمعنى آخر لن يستطيع القتال، وتصبح القرى والسكان تحت رحمة المحتل، وأحيانًا تحت رحمة أدوات أمنية محلية تقوم بدور الوكيل الأمني الضامن الذي يمثل الدولة شكلاً ولكن ينفذ مخططات العدو مضموناً.
التجارب التاريخية تُثبت أن المقاومة، رغم ثمنها الباهظ، تحفظ للناس حدًّا أدنى من الكرامة والسيادة. أما نزع السلاح فيُفضي إلى الذل والانصياع والتطبيع الإجباري مع واقع الاحتلال، ويحوّل قضايا التحرر إلى ملفات تفاوضية تخضع لحسابات المصالح الكبرى لا للعدالة والحق.
المقاومة ليست جماعة بل ثقافة
لدى المقاومة في لبنان وفلسطين تاريخ عريق وحافل بالانتصارات على الصهاينة والمحتل الإسرائيلي، هذا التاريخ الذي سُطرت أحرفه من دم الشهداء والقادة الأبطال والصمود الاسطوري أمام أكثر الأسلحة تطوراً ، لن يستطيعوا بيوم وليلة أن يغيروه أو يزيلوا عناوينه المشرفة من ذاكرة الشعب المقاوم، هذا الشعب الذي خاض تجارب السلم والحرب وعاش أقسى الظروف المعيشية والحصار والقصف العشوائي للمدنيين العزل لن يرضى بأن يسلم عرضه وشرفه ( وهو السلاح) لمتخاذلين جدد ينفذون مآرب العدو بحجج واهية وخالية من الموثوقية والصدق، حكومات تأتي ليس لها تاريخ أو هوية وتعتقد أنه من السهل أن يبيع المرء كرامته وتاريخه ونضاله المقاوم بأثمان رخيصة واتفاقات مذلة .
الفكر المقاوم اليوم في فلسطين ولبنان والعراق تجذر في عقول وأذهان الشباب والأطفال قبل الشيوخ والكهلة، تشهد عليه تضاريس البقاع والجنوب في كل شبر من هذه الأرض ونهر دجلة والفرات و غزة والضفة الغربية وخان يونس، لاوجود بدون سلاح ولاسلام بدون سلاح وأصبحت مقولة "السلاح من أجل السلاح" تجري في عروق المقاومين والشعب الذي لن يرضى بالذل حتى لو كلفه ذلك حياته.
الخاتمة
التاريخ يعلّمنا أن الرصاصة الأولى لا تُطلق فقط لتحرير الأرض، بل لحماية الذاكرة من المصادرة، وأن نزع السلاح ليس خطوة تقنية بل إجراء استراتيجي لاقتلاع الجذر الذي يُغذي فكرة التحرر. في هذه اللحظة المفصلية، ومع تصاعد الصراع في المنطقة، وصعود قوى الشر العالمي، لم يعد ممكنًا التسليم بمعادلة أحادية للقوة. إن سلاح المقاومة بات شرط وجود، لا مجرّد خيار تكتيكي. فالمعركة لم تعد على قطعة أرض فقط، بل على المعنى الكامل للسيادة وعلى هوية الشعوب في مواجهة عالم يُعاد ترتيبه بقواعد قديمة وأدوات جديدة.
المقاومة اليوم ليست مجرد فعل أو وجود عسكري، بل موقف حضاري في وجه عقلية استعمارية تعيد إنتاج ذاتها تحت شعارات جديدة، والسلاح في هذا السياق هو رمز البقاء وصوت من لا صوت لهم في المحافل الدولية.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال