الازدواجية السياسية للإمارات تجاه غزة، من الإدانة الإعلامية إلى التعاون السري مع الولايات المتحدة وإسرائيل
43 Views

الازدواجية السياسية للإمارات تجاه غزة، من الإدانة الإعلامية إلى التعاون السري مع الولايات المتحدة وإسرائيل

بعد عملية 7 أكتوبر 2023 وتصاعد التوترات في المنطقة على أثرها، لم تقتصر أنظار العالم على المواجهة العسكرية بين الطرفين فحسب، بل تترقب أيضًا السيناريوهات السياسية لما بعد هذه الحرب. في هذه الأثناء يكتسب دور الإمارات العربية المتحدة أهمية بالغة كفاعل إقليمي يلتزم ظاهريًا بالمواقف العربية التقليدية، ولكنه عمليًا يتمتع بعلاقات استراتيجية مع إسرائيل والولايات المتحدة .

تدين أبوظبي احتلال غزة إعلاميًا وسياسياً على الصعيد الدولي، لكن الأدلة تشير إلى أنها تستضيف وتُسهّل خلف الكواليس اجتماعات سرية مع واشنطن وتل أبيب لرسم مستقبل المنطقة.

السلوك المتناقض لأبوظبي
تُعدّ السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة تجاه الحرب في غزة مثالًا واضحًا على استراتيجية ذات شقين. فعلى المستوى الرسمي تُركز الدبلوماسية العامة لدولة الإمارات العربية المتحدة على إدانة "انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان" و"التدمير الممنهج لغزة". هذا الموقف حاسم لأبوظبي إذ يسمح لها بالحفاظ على بعض مظاهر الشرعية لدى الرأي العام العربي والإسلامي، وتجنب اتهامات التواطؤ الكامل مع تل أبيب.

لكن خلف الكواليس القصة مختلفة تمامًا حيث تشير التقارير إلى أن المسؤولين الإماراتيين يعملون بنشاط مع نظرائهم الأمريكيين والإسرائيليين لرسم خارطة طريق لحكم غزة بعد الحرب.

هذه الازدواجية السياسية لأبوظبي هي نهج استراتيجي حكيم: من جهة تُبقي نفسها في المعسكر العربي ومن جهة أخرى، تُعزز مكانتها كشريك موثوق لواشنطن وتل أبيب. وقد وضع هذا الدور المزدوج أبوظبي في موقع يُمكّنها من التأثير على الاتجاهات الإقليمية والاستفادة من علاقاتها مع الغرب (1) .

الاستثمار الجيوسياسي للإمارات العربية المتحدة
لا يُمكن اعتبار تعاون أبوظبي في قضية غزة استجابةً قصيرة المدى؛ بل هو جزء من استثمار جيوسياسي أوسع وأكثر طموحًا. تحرص الإمارات العربية المتحدة على ترسيخ مكانتها كـ"مهندسة النظام الجديد في الشرق الأوسط"، نظامٌ تلعب فيه القوى المعتدلة المتحالفة مع الغرب دورًا محوريًا، وتُهمّش فيه حركات المقاومة الشعبية والإسلامية.

إنّ المشاركة في محادثات سرية حول سيناريو غزة ستمنح الإمارات رصيدًا سياسيًا ونفوذًا لا مثيل لهما. ومن خلال لعب دور الوسيط، تُرسّخ أبوظبي نفسها فعليًا كقطب لا يُنكر في المعادلات الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط. ومن خلال المساهمة في تشكيل حكومة ما بعد الحرب في غزة، تأمل الإمارات في الحدّ من نفوذ منافسيها الإقليميين وخاصة قطر وتركيا اللتين تتمتعان بعلاقات أفضل مع حماس، وتقليص دورهما في حل الأزمة الفلسطينية.(2)

ماهي البدائل لحماس
تتمحور المحادثات السرية حول إيجاد بديل سياسي وأمني لحماس، قادر على السيطرة على غزة دون تدخل الحركة عسكرياً. وقد طُرحت خطط مختلفة في هذا الصدد أبرزها اثنان:

- عودة محمد دحلان: من السيناريوهات التي دُرست بجدية عودة محمد دحلان، القيادي السابق في حركة فتح والمنافس الشرس لحماس إلى السلطة. ويُعتبر دحلان، المقيم في أبوظبي منذ سنوات طويلة والذي تربطه علاقات وثيقة بحكام الإمارات، خيارًا مناسبًا لإدارة غزة بعد الحرب. ويعتقد مؤيدو هذه الخطة أن دحلان قد يُنشئ قوة أمنية خاضعة للسيطرة ويتعاون مع إسرائيل.

- تشكيل قوة متعددة الجنسيات: سيناريو آخر هو إنشاء قوة متعددة الجنسيات من دول عربية تُكلّف بتوفير الأمن وإدارة إعادة إعمار غزة. في هذا السياق يمكن للإمارات العربية المتحدة أن تلعب دور الوسيط والراعي المالي. ومع ذلك فإن العديد من الدول بما في ذلك مصر والأردن، مترددة في المشاركة في مثل هذه القوة المشتركة خوفًا من تداعياتها السياسية والأمنية.(3)

تحدي الشرعية في فلسطين
تكمن المشكلة الأساسية في هذه الخطط في أن أياً من الخيارين لا يتمتع بالشرعية الفلسطينية اللازمة لحكم شعب غزة. فمحمد دحلان لا يحظى بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين، وستُعتبر عودته فرضاً من جهات أجنبية. وبالمثل، فإن أي قوة متعددة الجنسيات مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل تفتقر إلى المصداقية في نظر المجتمع الفلسطيني، وتُعتبر أداة لترسيخ الاحتلال وحرمان الشعب من حقه في تقرير المصير.

إن أي هيكل سياسي وأمني يُشكل دون مراعاة إرادة الشعب الفلسطيني وبتعاون القوى الأجنبية فقط محكوم عليه بالفشل في النهاية. وقد أثبت التاريخ أن الحلول المفروضة في الأراضي المحتلة لا تؤدي إلى الاستقرار فحسب، بل تُعيد إنتاج المقاومة وتُعمّق الانقسامات القائمة. وهذا يُمثل نقطة ضعف أساسية في حسابات الإمارات وحلفائها.

التداعيات الإقليمية
لسياسات الإمارات المتحدة تجاه غزة تداعيات بعيدة المدى على المستويات الإقليمية الأوسع. وأهمها تعميق الشرخ بين محوري المقاومة والتطبيع. من ناحية، يعترض محور المقاومة بشدة على مثل هذه المفاوضات السرية معتبراً إياها خيانة للقضية الفلسطينية. ومن ناحية أخرى، تعارض الدول التي تُطبّع العلاقات مع إسرائيل (مثل الإمارات والبحرين والمغرب) هذا المحور. هذه المواجهة لا تُعرّض الاستقرار الإقليمي للخطر فحسب، بل قد تُؤجج أيضاً المزيد من الصراعات بالوكالة.

بالإضافة إلى ذلك، تشتد هذه المنافسة داخل العالم العربي. إن الدور الفعال للإمارات العربية المتحدة يضعها في مواجهة مباشرة مع قطر، التي قدّمت نفسها كداعم لحركة المقاومة لسنوات من خلال استضافتها قادة حماس. كما ستستغل تركيا التي تربطها علاقات متوترة مع الإمارات العربية المتحدة هذه الفرصة لانتقاد أبوظبي وتعزيز مكانتها في العالم الإسلامي. على المدى الطويل قد يكون لهذا الاستثمار الجيوسياسي تكاليف باهظة على الإمارات العربية المتحدة ويقوّض شرعيتها بشدة بين شعوب الدول العربية والإسلامية.(4)

وفي النتيجة، تُخاطر الإمارات العربية المتحدة جيوسياسيًا باللعب على منصتين متعارضتين. فمن ناحية، تُبقي نفسها في المعسكر العربي بإدانات ظاهرة، ومن ناحية أخرى، تُعزز حلفائها الغربيين والإسرائيليين من خلال المساعدة في التخطيط لسيناريو التالي لغزة. إن الدافع الرئيسي لأبوظبي لهذا الاستثمار الجيوسياسي هو أن تصبح المهندس الرئيسي لنظام الشرق الأوسط المستقبلي والقضاء على المنافسين الإقليميين. ومع ذلك، فإن إهمال عنصر الشرعية الفلسطينية في هذه الحسابات هو أكبر نقاط ضعفها. إن خططًا مثل عودة محمد دحلان أو نشر قوة متعددة الجنسيات محكوم عليها بالفشل دون موافقة شعب غزة ولن تؤدي إلا إلى استمرار دائرة العنف وانعدام الأمن. إضافة إلى ذلك فإن هذه السياسات تُعمق حتمًا الفجوة بين محور المقاومة والتطبيع، مما يُهدد استقرار المنطقة برمتها.



محمد صالح قرباني

1- https://thearabweekly.com/uae-said-be-discussing-post-war-scenarios-gaza-us-and-israel
2- https://foreignpolicy.com/2025/08/07/new-middle-east-israel-palestine-saudi-iran-lebanon
3- https://mondoweiss.net/2025/03/why-the-uae-is-working-to-thwart-arab-unity-on-gaza
4- https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/israel-uae-defense-cooperation-grows-under-
abraham-accords
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال