في الرابع من تشرين الأول الماضي، وبالتزامن مع إجراء الانتخابات المحلية في جورجيا تجمع كبير من المتظاهرين في العاصمة تبليسي وحاولوا اقتحام قصر أوربيلياني الرئاسي. [1] وتُمثل هذه الأحداث الأخيرة، جزئيًا رمزًا للغضب الشعبي ضد حكومة حزب "الحلم الجورجي" الحاكم. ولم يؤدِّ الغضب الشعبي على مستوى جورجيا إلى أزمة شرعية سياسية وانتخابية فحسب، بل تسبب أيضًا في موجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق في تبليسي، بالتزامن مع الانتخابات المحلية مما يُعدّ مؤشرًا واضحًا على تراجع شرعية حزب "الحلم الجورجي" الحاكم.
في السابق قاطعت العديد من أحزاب المعارضة للحزب الحاكم هذه الانتخابات، معتبرةً إياها تفتقر إلى الشفافية والنزاهة، لاعتقادها أنها متورطة في عمليات تزوير واسعة النطاق وتدخل غير قانوني من قِبل أصحاب النفوذ.[2] كما أعربت بعض المنظمات الدولية عن قلقها في هذا الصدد، واعتبرت هذه الانتخابات مجرد استعراض لا مظهرًا لمنافسة حقيقية. [3]
في هذا الصدد، لا تُعدّ محاولة المتظاهرين اقتحام القصر الرئاسي رمزًا لمواجهة القوة والسلطة فحسب، بل تُمثّل أيضًا احتجاجًا مفتوحًا على غياب آليات الشرعية في النظام الانتخابي في البلاد. ووفقًا لبعض وكالات الأنباء والمصادر المستقلة، فقد تطورت هذه الاشتباكات بين المتظاهرين والقوات الحكومية إلى حدّ استخدام الشرطة خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل لتفريق الحشود وقمع الأمن[4]. وفي أجزاء من عاصمة البلاد، وخاصةً حول القصر الرئاسي وساحة الحرية في تبليسي، أُبلغ عن اشتباكات جسدية بين القوات الحكومية والمتظاهرين. وقد اعتبر المسؤولون الحكوميون هذه الاحتجاجات عملًا منظمًا يهدف إلى زعزعة الاستقرار، بل و"محاولة انقلاب". [5]هذا في حين تعتقد المعارضة أن هذه الاحتجاجات شُكّلت ردًا على القمع الشعبي والانتخابات غير القانونية. ووفقًا للمراقبين الدوليين تُعدّ الأحداث الأخيرة مؤشرًا على تصاعد عنف الحكومة وانهيار ثقة الجمهور بالمؤسسات الحكومية في جورجيا. تجدر الإشارة إلى أن جزءًا كبيرًا من المتظاهرين في هذه المظاهرات، رافعين أعلام الاتحاد الأوروبي وشعارات "أوروبا وطننا" و"لا لروسيا، نعم لأوروبا"، طالبوا الحكومة الجورجية بالعودة إلى مسار التكامل السياسي والاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي.[6]
حاليا وفي ظل استمرار هذه الظروف، قد يدفع استمرار عنف الشوارع وإنكار شرعية نتائج الانتخابات جورجيا نحو عدم الاستقرار السياسي والمزيد من الانقسام الاجتماعي؛ ما لم تتوصل الحكومة والمعارضة إلى حلٍّ قانوني قائم على الحوار. وبينما يُصرّ حزب "الحلم الجورجي" على السلطة والأمن والسيطرة على الساحة السياسية، تُتهم المعارضة وقطاعٌ كبير من الجمهور الحكومة بـ"الانحراف عن مسار التحوّل الأوروبي". ويعتقد المحللون أنه لا يُمكن تجنّب التوترات السياسية الناشئة إلا من خلال حوار وطني شامل وإصلاح العملية الانتخابية والالتزام بالدستور الجورجي، وإلا، تُخاطر جورجيا بالتحول إلى دولة ذات مجتمع ثنائي القطبية على غرار أوكرانيا قبل عام ٢٠١٤.
من جهة يُمكن الإقرار بأنّ عدم اكتمال محادثات انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي في الأشهر الأخيرة هو أحد الأسباب الرئيسية للاحتجاجات. يتهم بعض المعارضين الحزب الحاكم بتعريض مستقبل البلاد للخطر بسياساتٍ تُناصر موسكو، ويدّعون في المقابل أنّ مسؤولي الحزب الحاكم سيواصلون مسيرة التكامل الأوروبي. من جهة أخرى دعا فنانون وشخصيات ثقافية إلى انتقال سلمي للسلطة دعمًا للمحتجين. في هذا الصدد نظّمت مغنية الأوبرا الشهيرة باتا بورشولاتز وقفة احتجاجية ضدّ تقييد الفضاء الثقافي وتهيئة مناخ أمني في تبليسي.
وفي خطوةٍ أخرى وقّع أكثر من 450 أكاديميًا وطالبًا بيانًا يدين تدخل قوات الأمن والجيش في تفريق التجمعات العامة، ويدعو إلى حرية التعبير واستقلالية العمل. [7]وقد أدّى الحضور الواسع للشخصيات الثقافية والعلمية إلى تحوّل هذه الحركة إلى اتجاهٍ اجتماعيٍّ عميق، بمشاركةٍ واسعةٍ من الفنانين والناشطين الاجتماعيين والثقافيين. على الصعيد الدولي ازداد الضغط على الحكومة الجورجية أيضًا. اتهمت منظمات دولية منها منظمة العفو الدولية ووسائل إعلام غربية، الحكومة الجورجية بممارسة قمع مماثل لما حدث في روسيا. كما أعلن بعض القادة الإقليميين ومنهم رئيسة مولدوفا مايا ساندو، دعمهم للشعب الجورجي وحقه في الاحتجاج السلمي، ودعوا تبليسي إلى الالتزام بمسار التكامل الأوروبي.
وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أن الأحداث الأخيرة في جورجيا تُعتبر مؤشرًا على أزمة ثقة عميقة بين الشعب والحكومة. أحداث متجذرة في الاستياء الشعبي من المسار غير الشعبي، وجمود مسار التكامل الأوروبي وتزايد الضغوط السياسية. إن استمرار عنف الشوارع والوضع الأمني لا يزيدان من خطر عدم الاستقرار السياسي فحسب، بل قد يُبلور أيضًا انقسامات اجتماعية عميقة وخطر استقطاب المجتمع. مع جمود التكامل الأوروبي يعتمد مستقبل جورجيا السياسي على قدرة الحكومة والمعارضة على تبني الحوار الوطني وإصلاح القوانين الانتخابية والعودة إلى سيادة القانون. ومع استمرار تصاعد الضغوط الدولية على تبليسي فإن البلاد لن تتمكن من إيجاد طريق إلى النمو والتنمية الحقيقيين إلا من خلال المشاركة البناءة واحترام سيادة القانون.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال