الانعكاس الجيوسياسي للوجود الصيني والروسي في القطب الجنوبي
يعدّ القطب الجنوبي من المناطق التي لا تخضع لملكية حصرية، ويمكن لمختلف دول العالم أن تعمل فيها وفقًا لمصالحها وسياساتها، لطالما كانت هذه المنطقة مركز نفوذ الدول الكبرى في العالم وعادةً ما يكون للدول ذات البرامج العلمية الضخمة حضورٌ كبيرٌ فيها. وقد اهتمت الصين وروسيا بالتأثير في هذه المنطقة في الماضي وأنشأتا العديد من محطات مراكز الأبحاث فيها. (١)
وتتواجد الدول الأوروبية والولايات المتحدة أيضًا في هذه المنطقة، ولكل منها برامج خاصة بها. بالإضافة إلى الأبعاد العلمية والمناخية و يمكن أن يكون للوجود المكثف للصين وروسيا في منطقة القطب الجنوبي طابعٌ عسكري وجيوسياسي وهو ما سنناقشه في هذا المقال.
الأهمية الجيوسياسية للقطب الجنوبي: وفقًا لمعاهدة القطب الجنوبي لعام ١٩٥٩ مُنعت جميع الأنشطة المتعلقة بالموارد المعدنية في هذه المنطقة. تُدار هذه المنطقة من قِبل ٣٠ دولة.(٢) في ضوء هذه القضية فإن الدول التي ترغب في التواجد في هذه المنطقة لديها منظور آخر غير استكشاف الموارد المعدنية. تهتم الصين وروسيا بالتواجد في هذه المنطقة، نظرًا لموقع القطب الجنوبي المهم وقربها من ممر دريك في الجزء الجنوبي من القارة الأمريكية. يمكن لوجود القوات الصينية والروسية في هذه المنطقة مراقبة جميع حركة المرور البحرية في المنطقة المطلوبة. يتمثل هدف آخر للصين وروسيا في تعزيز قواعد البحث والمحطات العلمية وإصلاح القواعد القديمة في القطب الجنوبي(٣)، مما يمكن أن يزيد من القوة العلمية لهذين البلدين في المستقبل. كما تقوم الصين بتجهيز قاعدة أرضية للأقمار الصناعية في هذه المنطقة على وجه التحديد مما يمكن أن يساعد في نمو قواعدها الفضائية.
أهداف تتجاوز الاستكشاف العلمي؛ بالنسبة للدول القوية قد يكون للوجود في القارة القطبية الجنوبية أهداف تتجاوز العلم والمعرفة وفي المستقبل القريب في حال نشوب حروب إقليمية قد تكون القارة القطبية الجنوبية أحد أهداف غزو هذه الدول، إذ وفقًا للأحكام الغامضة لمعاهدة عام ١٩٥٩ التي تحظر التعدين في القارة، فإن هذه المنطقة غنية بالمعادن والاحتياطيات الطبيعية وفي ظروف الحرب يمكن لهيمنة أطراف الصراع على القارة أن تغير مسار الحرب لصالح أو ضد الجبهة الشرقية أو الغربية. بناءً على ذلك مهدت الصين وروسيا الطريق لوجودهما المكثف في هذه المنطقة، ولا تملك الدول الغربية حاليًا أي خطط لوجود جدي فيها. من ناحية أخرى يُمثل الوجود الروسي المكثف في القارة القطبية الجنوبية ترسيخًا لمطالباتها الإقليمية فيها. لطالما ادعت روسيا اكتشافها القارة القطبية الجنوبية عام ١٨٢٠(٤)وتعتقد أن وجودها فيها ضروري لترسيخ مطالبها الإقليمية.
تحدي المعاهدات المتعلقة بالقطب الجنوبي، إحدى القضايا التي تحد من الوجود الواسع لمختلف الدول في القطب الجنوبي هو معاهدة عام ١٩٥٩ ومعاهدة مدريد لعام ١٩٩١ والتي يجب بناءً على هاتين المعاهدتين منع التنقيب عن المعادن والتلوث البحري في المنطقة. وقد ترك غموض هذه الأمور أيدي الدول الموجودة في المشهد القطبي الجنوبي مفتوحة لكل منها للتخطيط لخططها الخاصة مع تفسيرها الخاص للأحكام المذكورة أعلاه ولكن بشكل عام تحاول الصين وروسيا تغيير اللوائح القديمة الصعبة في منطقة القطب الجنوبي من خلال النظر إلى مصالحهما، الأمر الذي يتطلب إقناع الدول الموجودة في القطب الجنوبي.
نتائج ضعف الولايات المتحدة في القطب الجنوبي، وبالنظر إلى المتطلبات القانونية لمعاهدات القطب الجنوبي والصراعات الأخرى لإدارة ترامب في أجزاء مختلفة من العالم، فإن حكومة الولايات المتحدة ليست مهتمة بوجود كبير في منطقة القطب الجنوبي وركزت أكثر على مناطق أخرى من العالم. أدى هذا الوجود الطفيف للولايات المتحدة أيضًا إلى تحذير العديد من خبراء الأمن الغربيين من أنه إذا لم يكن لدى حكومة الولايات المتحدة خطة شاملة للقارة القطبية الجنوبية، فستخضع المنطقة لنفوذ الصين وروسيا على المدى القصير.
قد يُشكك تخلف الولايات المتحدة في هذه المنطقة الاستراتيجية على المدى المتوسط في المصالح الاستراتيجية للبلاد من خلال تحديد دورها في السياسة الدولية كقوة عظمى، ويجعل الدول التي على خلاف مع النظام الدولي القائم مثل روسيا والصين أكثر إصرارًا على تعزيز دورها. قد يكون لوجود المصالح المادية والاستراتيجية في القارة القطبية الجنوبية إنجازات مناسبة للولايات المتحدة، ولكن في الوضع الحالي ستُنسب جميع هذه الإنجازات إلى الجبهة الشرقية لأن إدارة ترامب ركزت على شرق آسيا وغربها.
الخلاصة
الوجود المكثف للصين وروسيا في منطقة القطب الجنوبي يعطي أهمية جيوسياسية لهاتين الدولتين بالإضافة إلى أبعاد علمية. وستخسر الدول الغربية نفوذها أمامهما في حال عدم وجود خطة شاملة وستكون منطقة القطب الجنوبي الغنية والنادرة بمواردها الطبيعية تحت تصرف الجبهة الشرقية. يشمل التنافس الأمني بين القوى العظمى في منطق السياسة الدولية نفوذ هذه الدول في جميع أنحاء العالم ويُعد القطبان الجنوبي والشمالي من أهم هذه المناطق. إن غياب التخطيط من قبل أطراف هذا التنافس على المناطق الاستراتيجية في العالم يمكن أن يزيد أو ينقص من توازن القوى العالمية.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال