مع انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 وقدوم الحكومة المؤقتة بقيادة محمد الجولاني إلى السلطة في دمشق، دخلت سورية مرحلة حاسمة من التحول السياسي. ويُعتبر هذا التطور فرصةً وتهديدًا في آنٍ واحد للقوى الإقليمية والدولية.
في غضون ذلك وجدت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة أرضيةً مشتركةً في تشكيل مستقبل سورية السياسي؛ أرضيةٌ مشتركةٌ يمكن تحليلها في شكل تعاونٍ خفيٍّ بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. صُمم هذا التعاون الخفي لاحتواء المنافسين وتوسيع النفوذ العربي واستغلال الفرص الاقتصادية في مرحلة ما بعد الأسد وإعادة بناء النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.
احتواء الجهات الفاعلة الإقليمية
مع سقوط الأسد تغيرت الأولوية الرئيسية لواشنطن والرياض من "إضعاف نفوذ إيران وتركيا" إلى "التطهير الكامل للقوى الإقليمية ومنع عودتها". هنا تبرز أهمية دور الحكومة الانتقالية بقيادة محمد الجولاني وهو شخصية معقدة شكّلت تحديًا للغرب في الماضي.
لا تستطيع الولايات المتحدة ولا ترغب بالتعامل مباشرةً مع الجولاني وهيئة تحرير الشام نظرًا لسجلهما الإرهابي. وهنا يأتي دور السعودية كـ"وسيط أساسي". فبفضل نفوذها الديني والمالي، تلعب الرياض دورًا مزدوجًا: فمن جهة تُضفي الشرعية على الحكومة الانتقالية السورية على الساحة الدولية والعربية من خلال توفير الضمانات السياسية والدعم، ومن جهة أخرى تُطمئن واشنطن بأن الحكومة الجديدة في دمشق ستنأى بنفسها تمامًا عن المحور الإيراني وتتجه نحو العالم العربي.
ويتجلى التعاون الأمريكي السعودي السري في هذا الصدد في أن الولايات المتحدة تُقدم الدعم الاستخباراتي والأمني للقضاء على القوات الموالية لإيران، بينما تُقدم السعودية الدعم السياسي والمالي اللازم لاستقرار الحكومة الجديدة.(1)
تعزيز الدور الجيوسياسي للمملكة العربية السعودية في بلاد الشام
لقد حوّل سقوط الأسد استراتيجية محمد بن سلمان التي استمرت لسنوات طويلة لاستعادة النفوذ العربي في سورية إلى نجاح باهر. فالرياض التي قدّمت نفسها كفاعل براغماتي في السنوات الأخيرة لنظام الأسد من خلال استعادة العلاقات أصبحت الآن "العراب" السياسي لسورية الجديدة. وقد تجاوز الدور السعودي دور الوسيط العادي ليصبح المهندس الرئيسي للسياسة الخارجية السورية في تشكيل الهيكل السياسي المستقبلي.
خلال الأشهر الستة الماضية استضافت الرياض عدة اجتماعات رئيسية مع شخصيات سياسية سورية، ممهدة الطريق لتشكيل حكومة أكثر شمولاً في المستقبل. وقد أدى دعم المملكة العربية السعودية الثابت في جامعة الدول العربية إلى نقل مقعد سورية بسرعة إلى الحكومة الانتقالية، وإلى تدفق المساعدات الأولية من دول الخليج الفارسي إلى دمشق. وفي حدث مثير للجدل التقى ترامب بالجولاني في الرياض بوساطة سعودية.
بإدارتها لعملية انتقال السلطة في سورية، لم تُقلص السعودية النفوذ الإيراني فحسب، بل أثبتت لواشنطن أيضًا أنها الشريك الوحيد القادر على ضمان الاستقرار في أكثر مناطق بلاد الشام حساسية. وقد عزز هذا النجاح المكانة الجيوسياسية للمملكة بشكل غير مسبوق.(2)
الاستثمار الاقتصادي في المرحلة الانتقالية
مع الاستقرار النسبي انتقلت الفرص الاقتصادية في مرحلة ما بعد الأسد من مجرد احتمال بعيد إلى واقع ملموس ومباشر. وتشهد الساحة الآن منافسة شرسة على عقود إعادة بناء البنية التحتية المدمرة في سورية. ويتصدر صندوق الاستثمارات العامة السعودي ومؤسسات الاستثمار القطرية والإماراتية هذا السباق بدعم سياسي أمريكي .
ويجري حاليًا وضع اللمسات الأخيرة على أولى العقود الرئيسية لإعادة بناء شبكة الكهرباء، ومصافي النفط في حمص ومينائي اللاذقية وطرطوس، من قبل اتحادات تقودها شركات سعودية. ويسعى هذا النهج إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولًا: تحقيق أرباح اقتصادية ضخمة وبناء اعتماد طويل الأمد للاقتصاد السوري على رأس المال الخليجي. ثانيًا، منع دخول الشركات الإيرانية والروسية بشكل كامل.
ومن خلال الحفاظ على الإطار العام للعقوبات مع منح إعفاءات مستهدفة لشركات الحلفاء فقط، مكّنت الولايات المتحدة فعليًا المحور العربي الغربي من تنفيذ عملية إعادة إعمار سورية حصريًا. وتضمن هذه الدبلوماسية القضاء على أي نفوذ اقتصادي للمنافسين ولكي تكون سورية الجديدة اقتصاديًا في معسكر الغرب وحلفائه فقط.
في مارس 2025 وقّعت شركة أكوا باور السعودية عقدًا لمدة 5 سنوات لإعادة بناء محطة حلب الحرارية للطاقة.
كما دخلت قطر هذا المجال باستثمار أكثر من 7 مليارات دولار في مشروع شبكة الكهرباء السورية بالشراكة مع شركة يو سي سي القابضة.
وفي خطوة مشتركة سددت المملكة العربية السعودية وقطر ديون سورية البالغة 15.5 مليون دولار للبنك الدولي في مايو 2025 لتمهيد الطريق أمام المساعدات الدولية لحكومة الجولاني.
كما بدأ ائتلاف سيلك لينك العربي عملياته لإطلاق شبكة الألياف الضوئية بين دمشق واللاذقية، والتي ستُحدث نقلة نوعية في الوصول إلى الإنترنت والاقتصاد الرقمي.(3)
إعادة بناء النظام الإقليمي القائم على التعاون المُستهدف
أصبحت الحالة السورية الآن أول مثال ناجح وملموس على النموذج الجديد للتعاون الأمني بين واشنطن والرياض. نموذج قائم على "تقسيم العمل": بحيث توفر الولايات المتحدة مظلةً سياسيةً أمنيةً شاملةً وتستخدم أدواتها الدولية (مثل العقوبات والنفوذ في الأمم المتحدة) لتحقيق أهداف مشتركة، بينما تتولى المملكة العربية السعودية، بصفتها قوةً إقليميةً مسؤولية الإدارة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية للقضية السورية. وقد سمح هذا التعاون الناجح في سورية للبلدين، على الرغم من اختلافاتهما في مجالات أخرى، بتحقيق نصر استراتيجي مشترك وبناء أسس إعادة بناء النظام الإقليمي عليه. وسيصبح النجاح في سورية نموذجًا يُحتذى به لحل الأزمات المحتملة الأخرى في المستقبل. ويشير هذا النموذج إلى أن عصر التدخل الأمريكي المباشر والمكلف قد ولّى وأن واشنطن ستعتمد على شركاء إقليميين أقوياء قادرين على "إنجاز المهمة" لتعزيز نفوذها ومصالحها.(4)
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال