لقد أحدثت الحرب بين روسيا وأوكرانيا تحولاً جذرياً في البنية الأمنية لأوروبا وأجبرت ألمانيا بصفتها أكبر اقتصاد لدول أوروبا وأكبر قوة سياسية مؤثرة، على إعادة صياغة سياساتها الدفاعية. رداً على الحرب الروسية أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس قرارين تاريخيين: إنشاء مجلس الأمن القومي، وزيادة القوات المسلحة الألمانية من حوالي 180 ألف جندي إلى 260 ألف جندي. تعكس هذه الإجراءات فهم برلين للتهديد المستمر الذي تشكله روسيا، ليس فقط على أوكرانيا بل أيضاً على النظام الأمني الأوروبي. في الوقت نفسه تشير هذه الإجراءات إلى سعي ألمانيا لاستعادة دورها القيادي في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاستعداد لعصر جديد من العسكرة.
يرتكز تصور ميرتس لروسيا على أنها تهديد دائم على ألمانيا، لقد حطم الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا الاعتقاد الراسخ في برلين بإمكانية احتواء موسكو من خلال الحوار والتبعية الاقتصادية. أكد ميرتز مرارًا وتكرارًا على ضرورة استعداد ألمانيا مستقبلاً لما لاماهو غير متوقع. ويقول إن احتمال امتداد العدوان الروسي إلى ما وراء أوكرانيا وزعزعة استقرار القارة الأوروبية بأكملها ليس مستبعدًا.
ويصرّ المستشار الألماني على أن تكتيكات روسيا من الضربات العسكرية التقليدية إلى الهجمات الإلكترونية وحرب الطاقة، تتطلب من ألمانيا أن تكون يقظة ومرنة. ويعتقد ميرتز أن الدرس المستفاد من أوكرانيا واضح: الضعف يُولّد العدوان. لذا إذا أرادت ألمانيا الحفاظ على سيادتها فعليها تعزيز ردعها ودعمها لحلفائها على الجناح الشرقي لحلف الناتو. لقد أصبح التهديد الروسي ذريعة قوية لأعمال كانت شبه مستحيلة في ألمانيا قبل عقد من الزمان.
وفي هذا السياق، يُعدّ إنشاء مجلس الأمن القومي الألماني أحد أهم الإصلاحات المؤسسية في العقود الأخيرة. تقليديًا كانت عملية صنع القرار الأمني في برلين متناثرة بين وزارات مختلفة، مثل الخارجية والدفاع والداخلية والاقتصاد وحتى المؤسسات التكنولوجية. وقد أظهرت أزمة أوكرانيا أن هذا التشرذم يمنع ألمانيا من الاستجابة بسرعة وتماسك.[1]
لهذا السبب شدد ميرتز على إنشاء مؤسسة مركزية قادرة على دمج قضايا الأمن الداخلي والخارجي والاقتصادي والرقمي. سيعمل المجلس الجديد كمركز تنسيق دائم، مما يُمكّن ألمانيا من الاستجابة السريعة للتهديدات المشتركة مثل الهجمات الإلكترونية على البنية التحتية الحيوية أو الضغوط الاقتصادية الناجمة عن قطاع الطاقة. بالإضافة إلى إدارة الأزمات ويهدف المجلس إلى تعزيز تماسك السياسة الخارجية الألمانية ومواءمة الالتزامات الدفاعية مع الاستراتيجيات الاقتصادية والدبلوماسية. في الواقع ليس هذا رد فعل على روسيا، بل محاولة لتحسين هياكل الدولة لمواجهة التحديات الأمنية المعقدة في القرن الحادي والعشرين.[2]
يتضمن برنامج حكومة ميرتز الجديد، الذي يهدف مباشرةً إلى تعزيز القدرات الدفاعية ضد روسيا، زيادةً كبيرةً في حجم الجيش الألماني (البوندسفير). ووفقًا للخطة سيزداد عدد أفراد الجيش الألماني من حوالي 180 ألفًا إلى 260 ألفًا، مما يُشير إلى التزامٍ جادٍّ بإعادة بناء القوة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك تم اقتراح نموذج جديد للخدمة العسكرية الإلزامية، والذي يتضمن إرسال استبيان إلى جميع من يبلغون من العمر 18 عامًا (إلزامي للرجال وتطوعي للنساء).
صُمم الاستبيان كوسيلةٍ لتجنيد المتطوعين لخدمةٍ قصيرةٍ مدتها ستة أشهر لكن الخطة تأتي مع تحذيرٍ من إمكانية إعادة تطبيق التجنيد الإلزامي في حال عدم وجود عددٍ كافٍ من المتطوعين. تُظهر هذه التغييرات الجوهرية في السياسة العسكرية أن ألمانيا تتجاوز فترةً طويلةً من تخفيضات ميزانية الدفاع والنهج الدبلوماسي البحت، وتعمل بنشاطٍ على تعزيز ردعها.[3]
بالإضافة إلى ذلك لا تُعيد ألمانيا بناء جيشها فحسب، بل تُعزز أيضًا التزامها بحلف شمال الأطلسي (الناتو) وتلعب دورًا رئيسيًا في مواجهة النفوذ الروسي في أوروبا الشرقية. من أبرز الدلائل الملموسة على هذا الالتزام النشر الدائم للواء مدرع كامل قوامه حوالي 4800 جندي ألماني في ليتوانيا. تُمثل هذه الخطوة التي تهدف إلى تعزيز الجناح الشرقي لحلف الناتو، نقلة نوعية كبيرة في السياسة الخارجية الألمانية. علاوة على ذلك زادت ألمانيا ميزانيتها الدفاعية بشكل كبير، وتعهدت حكومة ميرتس بزيادتها إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029، وهو ما يفوق بكثير هدف الناتو البالغ 2%. تُظهر هذه الإجراءات أن ألمانيا تعود إلى مكانتها كقوة عسكرية وأمنية كبرى في قلب أوروبا وأنها مستعدة لتحمل مسؤولية أكبر في مجال الأمن الجماعي.[4]
سارعت موسكو إلى الرد على هذه القرارات، ووصفتها بأنها "تخويف هستيري" ومحاولة لإثارة المشاعر المعادية لروسيا في أوروبا. واتهم متحدثون باسم وزارة الخارجية الروسية ألمانيا باتباع سياسة عسكرية والاستعداد للحرب. تُمثل ردود الفعل هذه جزءًا من رواية أوسع نطاقًا من موسكو تحاول تصوير الإجراءات الدفاعية الغربية على أنها "استفزازات عسكرية".
أخيرًا، تشير التطورات الأخيرة إلى أن ألمانيا تسعى لاستعادة قوتها العسكرية لعقود قادمة. فالحرب الروسية الأوكرانية، رغم كونها كارثة إنسانية أتاحت لألمانيا فرصةً لتغيير سياستها الدفاعية جذريًا وإقناع الرأي العام بزيادة الإنفاق على الدفاع. في الواقع تستغل ألمانيا هذه الفرصة لتعزيز قدراتها الدفاعية، ومن المحتمل ألا يكون التهديد الروسي مخيفًا كما يصوره الغرب، بل هو ذريعة لإعادة بناء الجيش الألماني واستعادة دوره كقوة عسكرية رئيسية في أوروبا. هذا النهج وإن كان استجابةً لتهديد خارجي إلا أنه يخدم أيضًا الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى لألمانيا.
أمين مهدوي
[1] Germany sets up National Security Council amid growing threats
[2] The Zeitenwende – a Health Check - CEPA
[3] New law on military service in Germany | eurotopics.net
[4] Hegseth Thanks German Counterpart for Stepping Up to Defense Challenges > U.S. Department of Defense > Defense Department News
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال