لم يُغيّر السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 والذي نتج عن التقدم السريع لجبهة تحرير الشام نحو دمشق، الخريطة السياسية لسوريا فحسب بل وضع جميع الأطراف الإقليمية والدولية أمام واقع جديد. في غضون ذلك أصبح مصير النفوذ الروسي الذي أنفق سنوات من الاستثمار العسكري والسياسي الضخم على بقاء الأسد السؤال الأهم في تحليل النظام الجديد في الشرق الأوسط.
رغم ذلك أظهرت موسكو رد فعل سريع وبراغماتي، وأن نهاية عهد الأسد لا تعني بالضرورة نهاية الوجود الاستراتيجي الروسي في بلاد الشام. فمن خلال تعزيز وجوده العسكري وإعادة تعريف دوره الدبلوماسي واستخدام أدوات القوة الناعمة بذكاء، ومن خلال تعزيز وجودها العسكري، وإعادة تعريف دورها الدبلوماسي، واستخدام أدوات القوة الناعمة بذكاء، يعمل الكرملين على تصميم استراتيجية للبقاء والنفوذ في سوريا التي لم تعد حليفاً لا يقبل المنافسة لموسكو.
ترسيخ الوجود الاستراتيجي رغم تغير موازين القوى
كان أول وأهم إجراء اتخذته موسكو بعد تطورات دمشق هو ضمان أمن واستقرار قاعدتي حميميم وطرطوس بشكل كامل. فهاتان القاعدتان أكثر من مجرد رمزين عسكريين، تُعدّان شريانين حيويين لروسيا للوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة، ونقطة ارتكاز لوجستية لبسط نفوذها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبينما انسحبت القوات الروسية من معظم المناطق الداخلية السورية عززت وجودها في هذه المناطق الساحلية. وقد بعثت هذه الخطوة برسالة واضحة، إن مصالح روسيا الاستراتيجية والأساسية غير قابلة للتفاوض بغض النظر عمن يحكم دمشق.[1]
إعادة تعريف الدور الروسي من داعم للنظام إلى وسيط إقليمي
أدركت روسيا سريعًا أن استراتيجيتها السابقة المتمثلة في الدعم غير المشروط للنظام لم تعد مجدية. فدخل الدبلوماسيون الروس على الفور في مفاوضات مع الحكومة السورية الناشئة. وقد غيّر هذا التحول التكتيكي دور روسيا من "داعم لطرف واحد في الحرب" إلى "وسيط أساسي" في إدارة المرحلة الانتقالية.
باستخدام نفوذها على مختلف الجماعات وعلاقاتها الراسخة مع جهات إقليمية فاعلة مثل تركيا وإيران، رسّخت موسكو مكانتها كقوة موازنة قادرة على منع الانهيار الكامل لهيكل الدولة وانتشار الفوضى على نطاق واسع. وقد سمح هذا النهج لروسيا بالاحتفاظ بدور محوري في المفاوضات حول مستقبل سوريا السياسي.[2]
استخدام أدوات القوة الناعمة
على الرغم من أن القوة العسكرية تُشكّل العمود الفقري للوجود الروسي، إلا أن موسكو تُدرك جيدًا أهمية أدوات القوة الناعمة. ففي سياق الأزمة الاقتصادية والإنسانية في سوريا، صوّرت روسيا نفسها كمنقذ اقتصادي من خلال إرسال شحنات من الوقود والقمح والمساعدات الإنسانية. بل ولعبت موسكو دورًا في طباعة الأوراق النقدية للمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الجديدة وتقديم المشورة المالية.
من منظور دبلوماسي استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع فرض عقوبات جديدة على سوريا، وتعهدت بدعم إعادة الإعمار الدولية. تُخفف هذه الإجراءات من وطأة التدخل العسكري وتُرسّخ النفوذ الروسي في مختلف شرائح المجتمع والاقتصاد السوريين.
تحدي الحرب الأوكرانية ونقص الموارد
مع ذلك تواجه استراتيجية روسيا في سوريا عقبات جسيمة. أهمها الحرب في أوكرانيا. فقد استحوذ هذا الصراع واسع النطاق على جزء كبير من اهتمام موسكو المالي والعسكري والدبلوماسي. وأثقلت العقوبات الغربية كاهل الاقتصاد الروسي وقلصت الميزانية الضخمة التي كانت تُنفق سابقًا على سوريا. وقد أجبر هذا موسكو على اللجوء إلى حلول أقل تكلفة، مثل تعزيز الدبلوماسية والاستعانة بشركات أمنية خاصة (مثل مجموعة فاغنر سابقًا) للحفاظ على نفوذها.[3]
تزايد المنافسة مع الجهات الفاعلة الإقليمية
لم يعد المشهد السوري حكرًا على روسيا، فهناك منافسة إقليمية متعددة الأوجه جارية. تعود دول عربية مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى دمشق من خلال الاستثمار في إعادة الإعمار. وزادت تركيا من نفوذها مع صعود هيئة تحرير الشام كما تسعى إيران إلى الحفاظ على دورها البنّاء، كما تعمل الصين على تعزيز دورها الاقتصادي تدريجيًا.
في ظل هذه البيئة التنافسية لا يمكن لروسيا أن تعمل بمفردها كما كانت تفعل في السابق لذلك اضطرت إلى تبني سياسة متعددة الأطراف والتواصل مع جميع هذه الجهات الفاعلة، حتى مع منافسيها للحفاظ على مكانتها. وهذا يعني تقاسم النفوذ والتخلي عن الدور الاحتكاري السابق.
تغير موقف دمشق وسعيها إلى الاستقلال السياسي
على الرغم من حاجتها إلى التعاون مع روسيا، إلا أن الحكومة الجديدة في دمشق مترددة أيضًا في الانجرار وراء هيمنة موسكو. ومن دلالات هذا النهج إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا في يناير 2025، وهي خطوة بعثت برسالة واضحة إلى الكرملين بالاستقلال السياسي. وتستند سياسة دمشق متعددة الأطراف إلى التوازن بين مختلف القوى - بما في ذلك روسيا والغرب وتركيا والعالم العربي - لتجنب الاعتماد المفرط على أي جهة فاعلة واحدة. وهذا النهج يُضعف نفوذ روسيا ويُجبرها على تقديم المزيد من التنازلات للحفاظ على نفوذها.[4]
الخلاصة
لقد تحول دور روسيا في سوريا ما بعد الأسد من دور تدخلي عسكري بحت إلى دور متعدد الأوجه وقابل للتكيف. وقد سعت موسكو إلى تحديد موقع مستقر لها في النظام الشرق أوسطي الجديد، معتمدةً على مواردها الصلبة (القواعد) والناعمة (الدبلوماسية والاقتصادية). إلا أن الضغوط الناجمة عن الحرب الأوكرانية وتصاعد المنافسة الإقليمية حدّت من هامش المناورة لديها. في غضون ذلك يحذر المحللون الاستراتيجيون الغرب من أن النهج الانعزالي والرهان على دمشق لقطع علاقاتها تمامًا مع موسكو استراتيجية فاشلة. وبدلًا من ذلك قد يكون التركيز على إعادة إعمار سوريا أكثر فعالية. فسوريا المستقرة والنامية ستتجه بطبيعة الحال نحو تنويع شركائها الدوليين، مما سيقلل تدريجيًا من احتكار روسيا للنفوذ. ولن يُحدد مستقبل سوريا في عزلة، بل من خلال التفاعل البنّاء مع العالم، وستُجبر روسيا أيضًا على قبول دورها كشريك كغيرها في هذا المجال الجديد.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال