العبور من أوروبا
122 Views

العبور من أوروبا

في ظل التغير الكبير للمشهد العالمي، تُراجع الولايات المتحدة استراتيجيتها العسكرية. وبحلول عام 2025 تتطلع إلى تقليص وجودها العسكري في أوروبا والتركيز بشكل أكبر على التهديدات الجديدة، لا سيما في آسيا والمحيط الهادئ، لا تعكس هذه التطورات التغيرات في ديناميكيات القوة العالمية فحسب، بل لها أيضًا آثار عميقة على الأمن العالمي، وحلف شمال الأطلسي والعلاقات عبر الأطلسي.

الولايات المتحدة التي لطالما لعبت دور "الشرطي العالمي" لعقود تسعى لتقلص وجودها العسكري في أوروبا. وتشير التقارير إلى أن البنتاغون يدرس خطة لسحب ما يصل إلى 10,000 جندي من أوروبا الشرقية، وهم جزء من حوالي 80,000 جندي أمريكي متمركزين في القارة تحت قيادة الولايات المتحدة الأوروبية (EUCOM). تُعد هذه القوات جزءًا من 20,000 جندي نشرتهم إدارة بايدن في عام 2022 لتعزيز دفاعات الدول المجاورة لأوكرانيا بعد الغزو الروسي. سيؤثر التخفيض المقترح للقوات، والذي قد يشمل نصف هذه القوات على دول مثل رومانيا وبولندا. (1)

وقد يُنظر إلى الانسحاب على أنه علامة على تراجع الهيمنة الأمريكية ونهاية دور واشنطن التقليدي كحارس للنظام العالمي. ويأتي قرار تقليص الوجود العسكري في أوروبا نتيجةً لقيود الميزانية، والحاجة إلى التركيز على التهديدات الناشئة وخاصة الصين وإعادة تقييم استراتيجي شامل.

تُسلط هذه التطورات الضوء على عدم فعالية استراتيجية الهيمنة الأمريكية، التي واجهت في العقود الأخيرة انتكاسات في غرب آسيا وتحديات في أوكرانيا. ويُنظر إلى تقليص الوجود العسكري في أوروبا ليس فقط على أنه علامة على تراجع القوة الأمريكية، بل أيضًا كخطوة نحو نهاية النظام أحادي القطب والتحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب.

القطبية الغربية الدفاعية لأوروبا
ردًا على احتمال تقليص الوجود العسكري الأمريكي، تُعزز الدول الأوروبية قدراتها الدفاعية. في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الشهر الماضي تعهد أعضاء الحلف بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035. ويشمل ذلك 3.5% للإنفاق الدفاعي الأساسي (مثل الأسلحة والقوات) و1.5% للاستثمارات المتعلقة بالدفاع، مثل الأمن السيبراني والبنية التحتية العسكرية.(2)

يعكس القرار الأخير فجوة في الثقة في الدعم عبر الأطلسي، لا سيما في ظل حالة عدم اليقين بشأن التزامات الولايات المتحدة تجاه الأمن الأوروبي. وصرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، بأن زيادة الميزانية ضرورية بسبب التهديد المتزايد من روسيا والحاجة إلى تعزيز القدرات الدفاعية للحلف. ومع ذلك رفضت بعض الدول مثل إسبانيا الالتزام بهذا الهدف ووصفه رئيس الوزراء بيدرو سانشيز بأنه "غير منطقي".

يمكن أن تمهد زيادة ميزانية الدفاع الأوروبية الطريق لتعزيز استقلال أوروبا الدفاعي وتقليل الاعتماد على حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة. ويشكل هذا التطور إلى جانب الاستثمار في التكنولوجيات الجديدة والتعاون الدفاعي عبر الأطلسي، خطوة نحو نظام عالمي أكثر عدالة ومتعدد الأقطاب، ويوضح ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها في الدفاع في مواجهة التهديدات الإقليمية دون تدخل أجنبي.

تآكل القوة الأمريكية
يعكس تركيز الولايات المتحدة على مواجهة الصين والتهديدات الجديدة محدودية قدرتها على إدارة جبهات عسكرية متعددة في آنٍ واحد. منذ إعلان إدارة أوباما عن استراتيجية "التوجه نحو آسيا" عام ٢٠١١، سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وفي عام ٢٠٢٥ سيستمر هذا التركيز بكثافة أكبر، لا سيما في ظل التقدم العسكري الصيني الذي سيرفع بحلول عام ٢٠٢٥ قدرات بكين على منع الوصول إلى مستوى يجعل الأصول العسكرية الأمريكية في المنطقة عرضة للخطر.

تتضمن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في آسيا استخدام تكتيكات غير متكافئة، مثل الأنظمة غير المأهولة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، لتحييد المزايا العسكرية الصينية. بالإضافة إلى ذلك، تُعزز الولايات المتحدة تحالفاتها مع دول مثل اليابان وأستراليا والهند لتعزيز هيكل الأمن الإقليمي.

يعكس التركيز على آسيا تآكل القوة الأمريكية في إدارة جبهات متعددة. إن الحاجة إلى السلام في أوكرانيا لتحرير الموارد العسكرية لآسيا، كما أشارت التحليلات الأخيرة، تُظهر عمق هشاشة هيكل الدفاع الأمريكي. ويؤكد ذلك أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الحفاظ على هيمنتها العسكرية في عدة مناطق في آن واحد.

إعادة هيكلة الناتو
يُجري حلف الناتو، أقوى تحالف عسكري في العالم، عملية تكيف مع تراجع محتمل في الوجود الأمريكي وتزايد التهديدات، لا سيما من روسيا. ويعكس الالتزام بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035 سعياً لتعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة. ويشمل هذا الالتزام الاستثمار في تقنيات جديدة، مثل الدفاع السيبراني والأنظمة غير المأهولة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الدفاعي عبر الأطلسي.(3)

ومع ذلك، يعتقد بعض الخبراء أن هذه التغييرات قد لا تكون سوى إعادة بناء سطحية لهيكل عفا عليه الزمن وغير فعال. ويواجه الناتو تحديات مثل أزمة الشرعية والفعالية في مواجهة التهديدات الجديدة. على سبيل المثال، يعكس غياب الإدانة الصريحة للغزو الروسي لأوكرانيا في بيان قمة 2025، خلافًا للسنوات السابقة، انقسامات داخلية داخل التحالف. كما أن تقليص الوجود الأمريكي قد يُضعف قوة ردع الناتو.

ومع ذلك، لا يزال الناتو ملتزمًا بدعم أوكرانيا، وقد أدرج المساعدة المباشرة لها في حسابات الإنفاق الدفاعي لدوله الأعضاء. ويعكس هذا سعيًا للحفاظ على الوحدة والتماسك في مواجهة التهديدات. ويعتمد مستقبل الناتو على قدرة أعضائه على إدارة التطورات وتحقيق التوازن بين التعاون مع الولايات المتحدة والاستقلال الدفاعي.

الخلاصة
تعكس التطورات الأخيرة في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، وخاصة تقليص وجودها في أوروبا والتركيز على آسيا، تحولات عميقة في ديناميكيات القوة العالمية. إن تراجع الهيمنة الأمريكية، والحاجة إلى استقلال الدفاع الأوروبي، وتآكل القوة الأمريكية على جبهات متعددة، كلها جزء من اتجاه نحو نظام عالمي أكثر عدلًا وتعددية الأقطاب. ويتكيف الناتو أيضًا مع هذه الظروف الجديدة، لكن مستقبل التحالف يعتمد على الجهود المشتركة التي يبذلها الأعضاء الأوروبيون والأمريكيون للحفاظ على التوازن بين التعاون والاستقلال الدفاعي. لا تقتصر آثار هذه التطورات على الأمن الإقليمي دون تدخل خارجي فحسب، بل تُظهر أيضًا فشل استراتيجية الهيمنة الأمريكية وضرورة اعتماد الدول الأخرى على نفسها دفاعيًا. في نهاية المطاف يتطلب المضي قدمًا توازنًا دقيقًا بين الحفاظ على التحالفات التقليدية وتبني الضرورات الاستراتيجية الجديدة.



محمد مهدي إسماعيل خانيان

1- https://www.nbcnews.com/politics/national-security/pentagon-considering-proposal-cut-thousands-troops-europe-officials-sa-rcna199603
2- https://www.cfr.org/project/us-pivot-asia-and-american-grand-strategy
3- https://www.reuters.com/world/europe/nato-countries-approve-hague-summit-statement-with-5-defence-spending-goal-2025-06-22/
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال