لقد أصبحت قمة الناتو التي عُقدت في يونيو 2025 في لاهاي نقطة تحول في العلاقات بين دول الأطلسي، وسلّطت الضوء على التأثير العميق لنهج ترامب القائم على مبدأ التحالفات الدولية. فبدلاً من تعزيز وحدة الناتو يبدو أن هذا التجمع سيكشف عن تصدعات عميقة في أسس المنظمة ويطرح تساؤلات جدية حول مستقبل بقاء التحالف وفعاليته.
أدى التناقض الواضح بين الرؤية الاستراتيجية لإدارة بايدن ونظرة ترامب القائمة على التعامل مع الناتو إلى خلق توتر وتحدي داخل التحالف. فنظرة ترامب التي تُقيّم الناتو في المقام الأول من حيث التكلفة والفائدة والمنفعة، قد تحدّت المبادئ التأسيسية للمنظمة المتمثلة في "الدفاع الجماعي" و"القيم المشتركة". في الواقع ترى الإدارة الأمريكية الجديدة أن الوظائف والنمو الاقتصادي في الداخل شاغلها الرئيسي وليس الأمن في أوروبا هو أولويتها.(1)
علاوة على ذلك فإن القضية المهمة في توفير الأمن لا تقتصر على القضايا الاقتصادية والمالية فحسب، بل تتجذر هذه القضية في ثقة الأطراف ببعضها البعض، حيث لم تعد أوروبا تثق بالولايات المتحدة بنفس القدر وتعتقد أن الولايات المتحدة لن تدعم أوروبا بكل قوتها. وقد خلق هذا الموقف انقسامات داخل حلف الناتو حيث تبحث الدول الأعضاء وخاصة الأوروبية عن طرق بديلة لتوفير الأمن لدولها.(2)
بعد أن أكدت الولايات المتحدة على ضرورة دفع دول الأعضاء لنسبة الـ 5% من تمويل الناتو، ازداد التوجه القائل بأن على أوروبا أن تفكر بنفسها في الدول ذات القدرة الاقتصادية المحدودة، لأنها تدرك جيدًا أنها غير قادرة على تحقيق هدف الـ 2% السابق، وأن زيادة الضغط من الولايات المتحدة قد تواجهها بتحديات داخلية عديدة. بالإضافة إلى ذلك برزت الخلافات داخل حلف الناتو بشكل أكبر بشأن موقف ترامب من احتمال انضمام أوكرانيا. فقد أدت معارضته الشديدة لتطلعات أوكرانيا للانضمام إلى الناتو إلى جانب اقتراحاته بأن على أوروبا إدارة تحدياتها الأمنية بنفسها إلى خلق فجوة كبيرة في التحالف. أثار هذا الموقف قلقًا بالغًا لدى أعضاء أوروبا الشرقية الذين يرون أن أمن أوكرانيا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمنهم، وأن السيطرة على أوكرانيا بالنسبة لهم يعني السيطرة عليهم.(3)
ورغم أن بعض القادة الأوروبيين ولا سيما أوربان في المجر وميلوني في إيطاليا، قد تمكنوا من الحفاظ على علاقات عمل وعلاقات شخصية مع الرئيس ترامب، إلا أن هذه الاتصالات الشخصية لم تُحدث تأثيرًا ملموسًا على الخلاف الدبلوماسي الأوسع. في الواقع عكست هذه العلاقات الانتقائية تباعدًا متزايدًا داخل حلف الناتو، حيث تتخذ الدول المختلفة نهجًا مختلفة في التعامل مع مطالب ترامب. ويسعى ترامب استنادًا إلى هذا النهج نفسه في التعامل الثنائي إلى تحقيق فوائد اقتصادية أكبر وتعريف الأمن من منظور اقتصادي.
في الحقيقة تتجاوز التداعيات المالية لنهج ترامب أهداف الإنفاق الدفاعي. فقد أجبر تعامله مع الضمانات الأمنية كسلع قابلة للتداول الدول الأوروبية على إعادة النظر في ميزانياتها وأولوياتها الدفاعية، مما قد يؤثر على مجالات أخرى من الإنفاق الحكومي والتنمية الاقتصادية. كما أن التداعيات الاستراتيجية الأوسع نطاقًا بالغة الأهمية. تراقب روسيا والصين هذه التطورات باهتمام وتريان فرصًا محتملة في الانقسامات الداخلية لحلف الناتو. قد يتيح ضعف العلاقات عبر الأطلسي فرصةً لروسيا والصين لإعادة تحديد مكانتهما في الهيكل الأمني الأوروبي وتشكيل تحالفات جديدة.
كان التأثير على التخطيط والعمليات العسكرية كبيرًا أيضًا. فقد أصبحت التدريبات المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتية والتخطيط الاستراتيجي أكثر تعقيدًا مع تزايد الشكوك حول التزامات الولايات المتحدة. ويضيف هذا التعامل العملياتي مزيدًا من التعقيد إلى الوضع الصعب أصلًا. وستؤدي هذه القضية إلى تراجع القوة العسكرية الأوروبية وستدفع القوى الأوروبية إلى تشكيل تحالفات جديدة. إذا أصرت الولايات المتحدة على انسحابها من أوروبا وحلف الناتو فيجب على أوروبا الإسراع في إعداد خطط بديلة لإدارة هذا الفراغ لتجنب أي أضرار محتملة.(4)
لذلك فإن نهج ترامب الذي يركز بشكل رئيسي على الاعتبارات المالية يُخاطر بتقويض عقود من التعاون الاستراتيجي والبنية التحتية الأمنية المشتركة. إن النظرة التبادلية والاقتصادية البحتة للعلاقات الدولية لا تأخذ في الاعتبار الترابطات المعقدة التي جعلت حلف الناتو فعالاً لأكثر من سبعة عقود.
وبينما يُواجه التحالف هذه التحديات يتضح بشكل متزايد أن نهج ترامب تجاه الأمن الدولي قد يكون له نتائج عكسية على أهدافه المنشودة. فبدلاً من تعزيز النفوذ الأمريكي يُزيد هذا الإسلوب خطر تراجع القيادة الأمريكية العالمية وخلق بيئة أمنية دولية مُجزأة ومليئة بالتحديات لم تعد الولايات المتحدة تلعب فيها دورًا رئيسيًا.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال