تركمانستان نحو البراغماتية السياسية!
1239 Views

تركمانستان نحو البراغماتية السياسية!

يُعدَ مؤتمر الأمم المتحدة الثالث المعني بالدول النامية غير الساحلية (LLDC3) الذي عُقد في أفازا في تركمانستان، علامة فارقة في مسار التنمية العالمي. وتتمثل النتيجة الرئيسية للمؤتمر في برنامج عمل أفازا (APoA)، وهو خطة أممية شاملة تُمكّن الدول النامية غير الساحلية من التغلب على العقبات الهيكلية التي تعترض النمو الاقتصادي والتجارة. ويشير التنفيذ الاستراتيجي لهذه الخطة إلى الدور الدبلوماسي المحوري لتركمانستان في الاستفادة منها لتعزيز سياستها الخارجية القائمة على الحياد الإيجابي وتعزيز مكانتها على الساحة العالمية. ومن خلال عرض هذه الخطة في قمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، قدّم الوفد التركماني بمهارة عالية أجندة تنموية كجزء لا يتجزأ من الأمن الشامل. ولم تُؤكد هذه الخطوة الدبلوماسية التزام عشق آباد بالتعددية فحسب بل أتاحت أيضًا مسارًا جديدًا ومبدئيًا لانخراط أوروبي أعمق في آسيا الوسطى.

يُعد هذا الالتزام بالغ الأهمية لأوروبا في سعيها لتوسيع نفوذها في منطقة تتنافس مع الوجود المتزايد للصين وروسيا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قيمتها الاستراتيجية كشريك للولايات المتحدة.

في الواقع اعتُمدت خطة عمل أفازا كأهم نتيجة لمؤتمر الأمم المتحدة الثالث المعني بالبلدان غير الساحلية الذي عُقد في مدينة أفازا الساحلية بتركمانستان. وقد وفر هذا الحدث التاريخي منصة شاملة لتعزيز النقل والتجارة والطاقة والرقمنة والقدرة على التكيف مع تغير المناخ في بعض البلدان الأكثر ضعفًا. تواجه البلدان غير الساحلية عقبات هيكلية مثل ارتفاع تكاليف التجارة والاعتماد على طرق النقل عبر البلدان المجاورة والتعرض لتغير المناخ. تسعى عملية تنفيذ الخطة إلى تحويل هذه الثغرات إلى فرص للتنمية ومعالجة هذه التحديات من خلال حشد التعاون الدولي، والاستثمار في البنية التحتية، وبناء شراكات إقليمية.[1]

بالنسبة لتركمانستان وجيرانها فإن خطة عمل أفازا هي أكثر من مجرد إطار فني؛ إنها ضمانة سياسية وإنمائية حيوية. ومن خلال إقرار الخطة يدرك المجتمع الدولي ضرورة معالجة التفاوتات الجغرافية من خلال حلول مبتكرة لدمج البلدان غير الساحلية في شبكات التجارة العالمية وتنويع اقتصاداتها وتحقيق النمو المستدام.

بالإضافة إلى ذلك، أكدت تركمانستان في قمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على تآزر خطة عمل أفازا مع أجندة الأمن الأوروبية وتماسكها مع الإطار الأمني ​​الشامل للمنظمة. وأوضح الوفد التركماني كيف تغطي الخطة الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية والبيئية والإنسانية وتتوافق مع أولويات المنظمة في مجال الاستقرار والتعاون. ويشمل تنفيذ الخطة هنا دمجها في حوارات المنظمة مثل ورش العمل المشتركة حول إدارة الحدود والأمن البيئي. وقد ربطت تركمانستان جهود الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وقدمت الخطة كأداة لتعزيز الأمن الجماعي، وخاصة في آسيا الوسطى حيث تؤدي التوترات الجيوسياسية هناك إلى تفاقم تحديات التطوير.[2]

وفي تحديد مجالات التعاون العملي حدد الوفد التركماني عدة مجالات رئيسية. وتشمل هذه المجالات تطوير ممرات النقل مثل طريق بحر قزوين - البحر الأسود وممر اللازورد، والتي تهدف إلى تقليل وقت العبور وتكاليفه للدول غير الساحلية. سُلِّط الضوء على أمن الطاقة المستدامة مع مبادرات لتعزيز مصادر الطاقة المتجددة، واقتُرحت شبكات طاقة عابرة للحدود لضمان التنمية المستدامة في ظل التحولات العالمية.

تشمل جهود الرقمنة والأمن السيبراني بناء بنية تحتية رقمية وبروتوكولات للحماية من التهديدات، بينما تُركِّز تدابير حماية البيئة على مرونة المناخ من خلال الإدارة المستدامة للمياه والحفاظ على التنوع البيولوجي. ويشمل تعزيز القدرات البشرية أيضًا برامج تدريبية لتزويد القوى العاملة بالمهارات اللازمة للقطاعات الناشئة. وتعتمد عملية تنفيذ هذه المحاور على التمويل متعدد الأطراف من الأمم المتحدة وبنوك التنمية، وقد سعت تركمانستان إلى جذب استثمارات مُوجَّهة في هذه المجالات في حوارات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

تُشكِّل خطة عمل أوازا أساسًا عمليًا لتعزيز الاستقرار والتكامل الإقليميين، مُكمِّلةً جهود منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ومن خلال تعزيز التنمية المستدامة والتقارب الاقتصادي، تُساعد الخطة على منع النزاعات وتعزيز الرخاء في مناطق مثل آسيا الوسطى. وتشمل استراتيجيات التنفيذ منتديات إقليمية للحوار ومشاريع مشتركة، مثل قمة الجبال العالمية لعام 2027 في قيرغيزستان، والتي ستُبنى على أطر عمل البرنامج. ويؤكد دور تركمانستان التزامها بالحياد والمشاركة البناءة ويعزز الثقة بين الجيران والشركاء الدوليين.[3]

تُعد خطة عمل آسيا الوسطى ذات أهمية خاصة للدول غير الساحلية، التي غالبًا ما تمنعها القيود الجغرافية من الاندماج في الأسواق العالمية. ومن خلال إنشاء ممرات نقل جديدة، وتعزيز التعاون الإقليمي، وتعزيز القدرة التنافسية التجارية تُعالج الخطة هذه العيوب بشكل مباشر.

إن خفض تكاليف التجارة وتنويع مصادر الطاقة وتحسين المرونة الرقمية والمناخية ليست مجرد ضرورات اقتصادية، بل هي أيضًا أدوات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. بالنسبة للدول غير الساحلية، تُمثل خطة عمل آسيا الوسطى استراتيجية إنمائية وأداة لتحقيق التوازن الجيوسياسي، مما يسمح لها بالمشاركة بفعالية في التجارة العالمية والحوكمة.

ومن المهم أن تسعى أوروبا إلى تعزيز دورها في آسيا الوسطى كاستجابة مباشرة للمشهد الجيوسياسي المتغير بسرعة. لقد شكلت حرب عام 2022 في أوكرانيا نقطة تحول حوّلت آسيا الوسطى من منطقة هامشية إلى منطقة ذات أهمية استراتيجية لأوروبا. أجبرت الاتحاد الأوروبي على إعادة اكتشاف قيمة المنطقة، جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وزيادة تفاعله معها. وقد انعكس ذلك في استراتيجية الاتحاد الأوروبي المُحدثة عام 2019 واجتماعاته رفيعة المستوى اللاحقة مع قادة آسيا الوسطى.[4]

في هذا السياق، تُعدّ استراتيجية الربط الأوروبية المُتمثلة في مبادرة البوابة العالمية، خطابًا مُضادًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) والنفوذ التاريخي لروسيا. ويُعرّف نهج الاتحاد الأوروبي بأنه "مستدام وشامل وقائم على القواعد" على عكس ما يراه ممارسات مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الحكومات وتُولّد الديون. وتُؤكّد استراتيجية الاتحاد الأوروبي على الشفافية والحوكمة الرشيدة وضمان السيادة الاقتصادية والسياسية لشركائه. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك استثمار 10 مليارات يورو في ممر النقل عبر بحر قزوين، والذي يهدف إلى إنشاء رابط موثوق ومتعدد الوسائط بين أوروبا وآسيا، متجاوزًا الأراضي الروسية. ويتماشى هذا المشروع مع أهداف خطة عمل أفازا، وهو محاولة ملموسة لإنشاء إطار عمل جديد ومبدئي للمشاركة[5].

وأخيرًا، تُمثّل عملية تنفيذ خطة عمل أفازا فصلًا جديدًا للدول غير الساحلية ونهج المجتمع الدولي نحو التنمية العادلة. من خلال وضع الخطة على أجندة الأمن لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أكدت تركمانستان على طبيعتها متعددة الأبعاد؛ فممرات النقل تعزز الترابط الاقتصادي، والتعاون في مجال الطاقة يعزز الأمن والرقمنة تزيد من المرونة وحماية البيئة تجعل التنمية مستدامة.

بالنسبة لأوروبا، تمثل خطة عمل أفازا أيضًا فرصة جديدة. فبينما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى توسيع حضوره في آسيا الوسطى، يجب عليه الموازنة بين رغبته في البقاء لاعبًا عالميًا والنفوذ الاستراتيجي للصين وروسيا، مع الحفاظ على أهميته للولايات المتحدة كشريك عبر الأطلسي. ولا شك أن هذا التوازن سيأتي بتكاليف سياسية واقتصادية باهظة لأوروبا. ولا يعتمد نجاح خطة عمل أفازا على التزام الدول غير الساحلية فحسب، بل يعتمد أيضًا على قدرة أوروبا والمجتمع الدولي على دعم هذه المبادرات لتعزيز الاستقرار والتكامل والتنمية المستدامة.


أمين مهدوي

[1] UN conference adopts Awaza Programme to boost trade and resilience in landlocked countries | Euronews
[2] orient.tm
[3] Sustainable Connectivity – Sustainable Development
[4] Pepm617_Kassenova_Oct2019.pdf
[5] BMV - EU-Asia Connectivity Strategy
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال