تُمثل مبادرة تركيا لإنشاء مناطق ومدن صناعية على الأراضي السورية تحولاً هاماً في نهجها تجاه سوريا، حيث تبتعد عن الصراع وتتجه نحو التعاون الاقتصادي. تهدف هذه الاستراتيجية، التي أُعلن عنها خلال عام ٢٠٢٥، إلى تطبيع العلاقات مع دمشق وتعزيز التجارة الإقليمية ودعم إعادة إعمار سوريا بعد سنوات الحرب. تسعى تركيا من خلال التركيز على الشركات الصغيرة والمتوسطة والاستفادة من الاستثمارات الخليجية والسعي إلى مشاريع تنموية طموحة إلى ترسيخ مكانتها كلاعب رئيسي في منطقة بلاد الشام.
يُمثل اقتراح تركيا بإنشاء مناطق صناعية في سوريا جهداً استراتيجياً لإصلاح وتطبيع العلاقات مع دمشق، التي توترت بسبب سنوات من الصراع. ويقول الخبراء إنه يمكن إنشاء هذه المناطق في فترة زمنية قصيرة مع مرافق آمنة وبنية تحتية متكاملة، كما تم الاتفاق عليه في أنقرة لعام ٢٠٢٥. تتجاوز هذه المبادرة الدبلوماسية التقليدية، حيث تركز على بناء المؤسسات الاقتصادية لإنشاء قنوات تجارية رسمية. إن إعادة بناء مجلس الأعمال التركي السوري، باتفاقية التأسيس التي ستُوقّع في مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية (DEIK)، تُعزّز هذا الالتزام. وقد أعرب الجانب السوري عن أمله في أن تُنشئ تركيا مصانع في سوريا لتصدير المنتجات الصناعية واستغلال موارد الإنتاج المتاحة. تتماشى هذه الخطوة مع الهدف الأوسع لتركيا المتمثل في دمج سوريا في اقتصادها، وتسعى إلى تعزيز الاستقرار السياسي في سوريا من خلال المصالح الاقتصادية المشتركة، وهو هدف ضروري لضمان أمن تركيا.
إضافةً إلى ذلك أعطت الحكومة السورية أولويةً للتعاون مع الصناعات المتوسطة الحجم لتحقيق طفرة اقتصادية ملموسة من خلال الاستثمار في النمو الصناعي المحلي. يهدف هذا النهج إلى تعزيز المدن الصناعية الصغيرة والسعي لإنتاج المنتجات التي تحتاجها تركيا وتلبي احتياجات سوريا المحلية مما يُمكّنها من توفير النقد الأجنبي للبلاد وتلبية بعض احتياجاتها الصناعية بتكلفة أقل. يُعدّ هذا الأمر بالغ الأهمية لتنظيم عودة السوريين إلى بلادهم وتشجيعهم على ذلك، وهو ما تُطبّقه تركيا بكفاءة.[1]
علاوةً على ذلك، يعتمد نجاح المناطق الصناعية التركية ومشاريع البنية التحتية المرتبطة بها بشكل كبير على الدعم المالي من دول الخليج الفارسي وخاصة قطر، ومن الأمثلة البارزة على ذلك المشروع المشترك مع قطر لتصدير الغاز الأذربيجاني إلى سوريا، والذي يُبرز دور رأس المال الخليجي في تمويل إعادة إعمار سوريا. يعكس هذا الاعتماد توجهًا جيوسياسيًا أوسع، إذ لدول الخليج الفارسي مصالح استراتيجية في مستقبل سوريا. كما تستعد البنوك التركية للعمل في سوريا، مما سيُسهّل الاستثمار والنشاط الاقتصادي. تضمن مشاركة المستثمرين الخليجيين الجدوى المالية لهذه المشاريع، لكنها تُدخل أيضًا نفوذًا أجنبيًا في العلاقات التركية السورية. في الواقع، من المرجح أن تواجه سوريا تحدي الاستقلال السياسي في الوقت الذي تتجه فيه نحو الازدهار الاقتصادي.
على الرغم من تحدياتٍ كثيرة كالتضخم والقيود المصرفية وتداعيات الحرب السورية، تشهد العلاقات التجارية بين تركيا وسوريا تقدماً ملحوظًا. فقد بلغ حجم التجارة 1.9 مليار دولار أمريكي في الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، ومن المتوقع أن يُحقق رقمًا قياسيًا جديدًا. ويعود هذا النمو إلى إمكانات المناطق الصناعية في تعزيز التجارة عبر الحدود، كما يتطلع رواد الأعمال الأتراك إلى المشاركة في إعادة إعمار سوريا. تُسهّل هذه المناطق، لا سيما في الراعي والباب، تصدير سلعٍ كالأحذية والمنتجات الزراعية، والتي غالبًا ما تُسوّق على أنها منتجات تركية وتستفيد من انخفاض تكاليف الإنتاج. ومع ذلك، تُشكّل تحدياتٌ كانخفاض قيمة الليرة التركية والقيود المصرفية مخاطر على النمو المستدام، الأمر الذي يتطلب إدارةً دقيقة.[2]
كما تمتد أجندة إعادة الإعمار التركية في سوريا إلى ما هو أبعد من المناطق الصناعية لتشمل مشاريع تنموية كبرى كالمستشفيات والمطارات والمباني الحكومية. وتُعدّ هذه المبادرات جزءًا من خارطة طريق أوسع لدعم تعافي سوريا، مع تعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا في الوقت نفسه. في شمال سوريا، أدارت تركيا الاقتصادات المحلية من خلال المجالس، واعتمدت الليرة التركية عملةً لها، وموّلت الخدمات، مما يعكس انخراطها العميق في المنطقة. وأطلقت شركات تركية خاصة، مثل PTT وTurk Telekom وET Energy، مشاريع لإعادة بناء البنية التحتية كالسدود والكهرباء وتأهيل الطرق، إلى جانب شركات سورية. تنقل هذه الجهود رسائل جيوسياسية واضحة، مما يضع تركيا كقوة استقرار في سوريا ولاعب مؤثر في التوترات الإقليمية.[3]
تُعد مبادرة تركيا لإنشاء مناطق صناعية في سوريا استراتيجية متعددة الأوجه تجمع بين الأهداف الاقتصادية والسياسية. من خلال إعطاء الأولوية للشركات الصغيرة والمتوسطة، والاستفادة من الاستثمارات الخليجية، والسعي إلى مشاريع تنموية طموحة، تسعى تركيا إلى تطبيع العلاقات مع سوريا وتعزيز نفوذها الإقليمي. يُبرز حجم التجارة البالغ 1.9 مليار دولار في عام 2025 والتركيز على إعادة الإعمار إمكانات النمو الاقتصادي على الرغم من تحديات مثل التضخم والقيود المصرفية. ومع ذلك، فإن طموحات تركيا العثمانية الجديدة ودعمها لمحور الإخوان المسلمين، إلى جانب قطر، قد يُعقّد الديناميكيات الإقليمية. وقد يؤدي هذا النهج التركي إلى تفاقم التوترات مع النظام الإسرائيلي، الذي ينظر بقلق إلى النفوذ التركي المتزايد في سوريا. وبينما تخوض تركيا غمار هذا المشهد المعقد، يتعين عليها الموازنة بين ارتباطاتها الاقتصادية وضرورة الاستقرار الإقليمي لضمان التنمية المستدامة في سوريا ومنع تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الأطراف الإقليمية.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال