دخلت العلاقة الوثيقة بين إسرائيل وبريطانيا والتي اتسمت سابقًا بروابط سياسية واستراتيجية قوية، مرحلةً من التوتر غير المسبوق في أعقاب التصعيد الأخير للتوترات في غزة. هذا التحول من الدعم القوي إلى المواقف الحاسمة لا يعكس فقط مخاوف بريطانيا المتزايدة بشأن العمليات العسكرية والسياسات الإنسانية لإسرائيل، بل له أيضًا تداعيات عميقة على الاستقرار الدبلوماسي والاقتصادي والإقليمي وقد يؤدي إلى إعادة تعريف السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط.
في أعقاب الصراع في غزة تخلت الحكومة البريطانية عن موقفها التقليدي المتمثل في الدعم غير المشروط لإسرائيل. وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني ستارمر وحكومته علنًا العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة بأنها "مروعة" و"لا تُطاق". كما أدانوا بشكل خاص توسيع العمليات العسكرية والقيود الصارمة المفروضة على المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وتُمثل هذه الانتقادات انحرافًا واضحًا عن تعبيرات التضامن الأولية التي اتسم بها رد بريطانيا على المخاوف الأمنية لإسرائيل. كما أدان وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي علنًا عنف المستوطنين الإسرائيليين.(1)
ويعود هذا التحول في اللهجة جزئيًا إلى اعتبارات سياسية داخلية، بما في ذلك الدوائر الانتخابية ذات الأغلبية المسلمة والاستياء العام من الأزمة الإنسانية في غزة. وإدراكًا لهذه الديناميكيات الانتخابية، زاد تحالف حكومة حزب العمال مع دول غربية أخرى مثل فرنسا وكندا من التهديد بفرض عقوبات جدية إذا استمرت الحملة العسكرية الإسرائيلية دون السماح بدخول المساعدات الإنسانية. ويعكس هذا الضغط الدبلوماسي توجهًا أوروبيًا أوسع نحو كبح جماح العنف الإسرائيلي وإيجاد حل جدي لأزمة غزة.
وفي ذات السياق، حتى التيارات المحافظة التي دعمت تقليديًا تصرفات النظام أصبحت الآن أقل دعمًا له، وتتخذ موقفًا أكثر حذرًا وقد تجاوز هذا التغيير في النهج السياسي جدران البرلمان مما يشير إلى زيادة الوعي العام لدى الجمهور البريطاني بالجرائم الصهيونية.(2)
بالإضافة إلى ذلك وفي خطوة حاسمة علّقت بريطانيا المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع النظام الإسرائيلي في مارس 2025. وكان هذا القرار ردًا مباشرًا على تجدد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والقيود المفروضة على المساعدات الإنسانية. وفرضت لندن عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وهو ما يُمثل علامة أخرى على استياء بريطانيا العميق من تصرفات الحكومة الإسرائيلية.
كما تُظهر هذه الخطوة جدية بريطانيا في استخدام الأدوات الاقتصادية للضغط الدبلوماسي الفعال. حيث أنها تُشير إلى اتساع الفجوة بين الرؤى السياسية للطرفين. ويُظهر هذا النهج إلى جانب قرار بريطانيا فرض حظر على توريد الأسلحة إلى الكيان الإسرائيلي جدية الحكومة البريطانية في مواجهة أفعاله المتطرفة واللاإنسانية والتعامل معها.(3)
كذلك ربما يكون اعتراف المملكة المتحدة بفلسطين "كدولة مستقلة" التغييرَ الأهمَّ المُحتمل في سياسة الحكومة. سيُمثّل هذا الاعتراف تحوّلاً تاريخياً في السياسة البريطانية لعقود وقد يُغيّر جذرياً دور بريطانيا في عملية السلام في الشرق الأوسط.
وقد أثار هذا الاحتمال قلقاً بالغاً في الأوساط الدبلوماسية الإسرائيلية وبين الجماعات المؤيدة لإسرائيل في بريطانيا. كما يعكس تدهور العلاقات تحوّلاتٍ أوسع في أولويات السياسة الخارجية البريطانية.(4) فبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي والتي تسعى إلى إعادة تعريف دورها العالمي، تبدو أكثر ميلاً إلى اتخاذ مواقف مستقلة بشأن القضايا الدولية، حتى عندما تختلف هذه المواقف عن مواقف حلفائها التقليديين. وقد تجلّى هذا الاستقلال الوظيفي في مواقفها الأكثر انتقاداً للسياسات الإسرائيلية.
من المهمّ الإشارة إلى أن تحوّل موقف المملكة المتحدة سيؤثر أيضاً على المواقف الأوروبية الأوسع تجاه إسرائيل. فبصفتها أحد أقوى الداعمين الأوروبيين لإسرائيل عبر التاريخ، يُمكن لبريطانيا أن تُشجّع الدول الأوروبية الأخرى على تبني موقف أكثر انتقاداً من خلال تغيير موقفها. وقد يُؤثّر هذا النهج بشكل كبير على مكانة إسرائيل الدبلوماسية في أوروبا.
في نهاية المطاف لم تُثر العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة والقيود المفروضة على المساعدات الإنسانية إدانة دولية فحسب، بل دفعت أيضًا إلى إعادة تقييم جوهرية لعلاقتها مع أحد أقرب حلفائها التقليديين وهي المملكة المتحدة.
إن تراجع الدعم السياسي البريطاني وتعليق مفاوضات اتفاقيات التجارة، والنظر في فرض عقوبات اقتصادية، والاعتراف المحتمل بفلسطين، كلها مؤشرات على تحول جذري في السياسة البريطانية في الشرق الأوسط. يُبرز هذا التحول كيف أجبرت أفعال إسرائيل حتى حلفاءها القدامى على إعادة تعريف علاقاتهم وإعادة النظر في استراتيجياتهم.
ومع ذلك فإن فعالية هذه السياسة البريطانية الناشئة غير مؤكدة ولا سيما بالنظر إلى قوة اللوبي الإسرائيلي في المملكة المتحدة وبين الحلفاء الغربيين الآخرين. وستكون كيفية موازنة لندن لضغوطها الدبلوماسية مع المصالح الاستراتيجية والاعتبارات السياسية المحلية حاسمة في تشكيل مستقبل العلاقات بين تل أبيب ولندن، والسعي الأوسع لتحقيق السلام في المنطقة، ففي نهاية المطاف يعكس موقف بريطانيا المتطور نفاد صبر دولي متزايد إزاء الوضع الراهن ويدعو إلى دبلوماسية أكثر استباقية وواقعية لمعالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال