في العديد من الأنظمة الديمقراطية تعتمد الأحزاب السياسية على شبكات مالية خارجية لتمويل أنشطتها من الحملات الانتخابية إلى الأبحاث وصنع السياسات. ولكن عندما تعتمد هذه التبرعات على مؤسسات أو جماعات ضغط أجنبية أو جهات ذات مصالح دولية، فقد يكون استقلال الحزب وشرعيته لدى الناخبين في خطر. في السنوات الأخيرة كان حزب العمال البريطاني بقيادة كير ستارمر محور نقاشات حول الشفافية المالية وتأثير جماعات الضغط الأجنبية والتغيير السياسي أكثر من أي وقت مضى. ما يبدو للوهلة الأولى عملية طبيعية في تمويل أنشطة الحزب، يُظهر في أعماقه علامات اعتماد خارجي وتراجعًا في الاستقلالية في صنع القرارات الرئيسية. يُظهر فحص حالات مثل "حزب العمال معًا" وروابطه الواسعة مع جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل أن الجمع بين التمويل وصنع السياسات قد دفع حزب العمال إلى تحديات ذات عواقب وخيمة على شرعيته ومستقبله السياسي.
من أهم الأمثلة على هذا الوضع مشروع "حزب العمال معًا"، الذي كان يعمل ظاهريًا كمركز أبحاث مقرب من الحزب، ولكنه في الواقع تجاوز دوره البحثي والفكري وشارك في عملية التنظيم الداخلي للحزب وتقديم الدعم لأعضاء البرلمان العماليين. ووفقًا لمصادر مختلفة تلقت المؤسسة أكثر من 730 ألف جنيه إسترليني كتمويل بين عامي 2017 و2020. [1]
وقد أدى التأخير في الإعلان عن جزء كبير من هذا التمويل إلى فرض لجنة الانتخابات البريطانية غرامة باهظة قدرها 14250 جنيهًا إسترلينيًا عليها. وعلى الرغم من أن هيئة الرقابة أعلنت لاحقًا عن عدم وجود أدلة كافية لفتح تحقيق جديد، إلا أن القضية رسمت صورة لمدى تعقيد التمويل داخل حزب العمال وأثارت تساؤلات جدية حول مستوى شفافيته.[2]
لم يقتصر دور "حزب العمال معًا" على المسائل المالية. يقول النقاد إنه كان جزءًا من استراتيجية لجماعات الضغط الصهيونية لتهميش الجناح اليساري للحزب. في عهد جيريمي كوربين كان لحزب العمال أجندة تقدمية للعدالة الاجتماعية والسياسات المناهضة للإمبريالية والملكية العامة. ومع ذلك فإن المعارضة الإعلامية الشديدة وتفاقم أزمة "معاداة السامية" وضعا قيادة كوربين تحت ضغط غير مسبوق. ويعتقد العديد من المحللين أن جماعات الضغط السياسية والمالية خارج الحزب بتعزيزها لهذه الرواية، قوضت شرعية كوربين، وأفسحت المجال للحزب للتحول نحو الوسط واليمين. وفي هذه العملية لعب التمويل المركزي والإعلانات الموجهة دورًا حاسمًا.[3]
لعبت جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل دورًا خاصًا في هذا الأمر. وكان لمنظمات مثل "أصدقاء إسرائيل في حزب العمال" تأثير كبير على السياسة الخارجية لحزب العمال من خلال عقد الاجتماعات ودفع تكاليف سفر أعضاء البرلمان إلى إسرائيل وإقامة اتصال مباشر مع أعضاء الحزب الرئيسيين. تُظهر التقارير الاستقصائية أن بعض أعضاء حكومة الظل لستارمر تلقوا دعمًا ماليًا من جماعات الضغط المرتبطة بإسرائيل، وقد تلقى العديد من أعضاء البرلمان نفقات سفرهم إلى الخارج من هذه المصادر. تسبب هذا الاتجاه في تحول المواقف الرسمية للحزب بشأن الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية نحو المحافظة والتوافق مع سياسات لندن وواشنطن. إن صمت حزب العمال بشأن قتل آلاف الفلسطينيين هو مثال واضح على هذا التحول في المواقف السياسية[4].
كما لعب الأثرياء دورًا في هذا التغيير في المعادلة. فعلى عكس حقبة كوربين عندما تم توفير جزء كبير من ميزانية الحزب من خلال التبرعات الصغيرة والنقابات، شهدت حقبة ستارمر زيادة في الاعتماد على التبرعات الكبيرة من المليارديرات. ولا يقتصر دور هؤلاء الأفراد على توفير الموارد المالية اللازمة للحملات الانتخابية فحسب، بل يؤثرون أيضًا على عملية صنع السياسات من خلال روابط مباشرة مع قيادة الحزب. على سبيل المثال أفادت التقارير أن منظمة "العمال معًا" أنفقت أكثر من 1.5 مليون جنيه إسترليني على أكثر من 100 نائب من حزب العمال. وشمل ذلك توفير موظفي دعم في مكاتب النواب والدعم المباشر لوزراء الظل. ويجادل النقاد بأن هذا الاتجاه يزيد من خطر اعتماد السياسيين بشكل مفرط على التمويل الخاص وإبعاد أنفسهم عن قواعد الحزب الشعبية.[5]
لهذه التطورات آثار واسعة النطاق على الديمقراطية الداخلية للحزب. أولًا، أصبح صنع القتمدًرار معا على المانحين أكثر من أي وقت مضى، وتقلصت سلطة الأعضاء العاديين في وضع سياسة الحزب. ثانيًا، ضعفت شرعية الحزب في نظر الناخبين، حيث يشعر المواطنون بأن المصلحة العامة قد أفسحت المجال للمصالح الخاصة. ثالثًا، أدى هذا الاتجاه إلى نفور جزء كبير من القاعدة الاجتماعية التقليدية لحزب العمال؛ وخاصة جيل الشباب والمهاجرين والأقليات الذين كانت لديهم آمال كبيرة في التغيير خلال عهد كوربين. في نهاية المطاف، يُتيح هذا الوضع فرصةً جيدةً للأحزاب اليمينية لتعزيز مكانتها في الساحة السياسية من خلال رفع شعار الشفافية والاستقلالية.
بالإضافة إلى ذلك تُظهر السوابق التاريخية أيضًا أن الاعتماد على التبرعات المالية الخفية يمكن أن يؤدي إلى أزمات خطيرة للحزب. تُعدّ الفضيحة التي تورط فيها ديفيد أبراهامز في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي تضمنت تبرعات غير شفافة لحزب العمال، مثالًا واضحًا على الضرر الناجم عن هذا النوع من الاعتماد. الآن في ظل الأجواء المتوترة للسياسة البريطانية، قد يُهدد تكرار مثل هذه التجارب شرعية حزب العمال بشكل خطير.
و الخلاصة، يجب القول إن حزب العمال بقيادة ستارمر يواجه معضلةً أساسية، من ناحية فهو بحاجة ماسة إلى موارد مالية للمشاركة بفعالية في المنافسات الانتخابية، ومن ناحية أخرى، يجب عليه الحفاظ على استقلاليته وشفافيته حتى يُعترف به كممثل حقيقي للشعب. أي هيمنة لمصالح جماعات الضغط الأجنبية والمليارديرات المقربين من تيارات معينة، مثل اللوبي الصهيوني ستُبعد الحزب عن قاعدته الاجتماعية وتُمهّد الطريق لتعزيز اليمين في بريطانيا. إذا لم يتمكن حزب العمال من الموازنة بين موارده المالية والقيم الديمقراطية فإنه يُخاطر بفقدان مكانته السياسية والاجتماعية بشكل أكثر خطورة من أي وقت مضى.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال