حلف الناتو وفشله في حماية أمن أوروبا الشرقية، اختبار لروسيا
شكّلت حادثة انتهاك المجال الجوي البولندي الأخيرة بطائرات مسيرة يُقال إنها انطلقت من روسيا، والتي تسببت في إغلاق مؤقت لمطار في بولندا واشتباك مع منظومات الدفاع، اختبارًا بالغ الخطورة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في تقييم قدراته الرادعة. ورغم إسقاط عدد من هذه الطائرات إلا أن الواقع هو أن البنية الدفاعية للناتو غير جاهزة لمواجهة هجمات الطائرات المسيرة حتى وإن كانت رخيصة.[1]
في أعقاب هذه الحادثة جمعت وارسو حطام الطائرات المسيرة لفحصها، وطلبت تفعيل المادة الرابعة من معاهدة الناتو حتى تصل المسألة إلى مستوى التشاور والتنسيق الرسمي بين الأعضاء. [2]ورغم أن المادة الرابعة من المعاهدة لا تُلزم بالرد العسكري بل هي استشارية فحسب، إلا أن روسيا اتخذت بعض الإجراءات في أوروبا الشرقية مما كشف عن ضعف الناتو، واقتصرت استجابة الناتو على الاجتماعات الاستشارية بدلًا من الاجتماعات العملياتية. من وجهة نظر العديد من الخبراء تُعتبر الحادثة الأخيرة من أكثر الاختبارات استفزازًا لقدرات روسيا الدفاعية، مما أثار قلق دول أوروبا الشرقية. في ظل هذه الظروف لم تعد موسكو قادرة على قياس القدرات العسكرية لحلف الناتو فحسب، بل أضعفت أيضًا الردع السياسي والنفسي لهذا التحالف الذي يبدو موحدًا.
دول أوروبا الشرقية التي تقف في طليعة مواجهة روسيا، تشعر الآن بقلق أكبر من أي وقت مضى بشأن قدرات الناتو على مواجهتها. لأن الفجوة الاستراتيجية بين قادة الناتو مثل اختلاف وجهات النظر بين ترامب وتاسك وبين قادة الولايات المتحدة وبولندا تُعزز حقيقة افتقار التحالف الأطلسي إلى رد موحد على تصرفات روسيا الغامضة. على المستوى السياسي قوضت الشكوك حول ما إذا كانت الهجمات متعمدة أم عرضية، إمكانية الرد الحاسم والفوري، مما يكشف عن ثغرات ونقاط ضعف في الناتو. وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحادثة بأنها "ربما كانت خطأ" لكن رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك أكد، مستشهدًا بالأدلة أن هذا كان عملًا متعمدًا.[3]
لقد وجّه هذا الخلاف في حلف الناتو رسالةً خاصة إلى موسكو، وهي غياب الوحدة، وبالطبع غياب الحسم حتى على أعلى مستويات صنع القرار الغربي. تُعدّ هذه نقطة قوة مهمة لروسيا في استمرار الحرب الرمادية. لذا حتى لو ردّ الناتو، سواءً تقنيًا أو دفاعيًا رغم غياب التوافق ووحدة الرأي وإنكار التهديدات الروسية المختلفة فإن أي قرار سيكون هشًا.[4]
في هذا الصدد أعلن حلف الناتو عن إطلاق مشروع جديد يُسمى "الحارس الشرقي" لتعزيز الدفاع الجوي ومواجهة تهديدات الطائرات المسيرة في أوروبا الشرقية، بغض النظر عن نوايا روسيا؛ وسيُطبّق إجراءً مشابهًا لبرنامج "حارس البلطيق" الذي أُطلق في السنوات الأخيرة لحماية خطوط الغواصات في منطقة البلطيق. ورغم أن هذا الإجراء يُظهر يقظة واستعداد الناتو إلا أنه عمليًا خطة رمزية تفتقر إلى الدعم ولا تُحلّ مشكلة الناتو الرئيسية والجوهرية إذ تمكّن الكرملين من كشف نقاط ضعفه من خلال عمليات طائرات مسيّرة عديدة ورخيصة. والآن إذا ظلّ مشروع "الحارس الشرقي" مشروعًا رمزيًا بحتًا بدلًا من أن يكون فعالًا فقد يكون تأكيدًا على أن الناتو لا يزال عُرضة لتهديدات روسية جديدة، وسيُؤدي في الواقع إلى نقل رسالة ضعف الناتو من قلب أوروبا.
من ناحية أخرى نفت موسكو أي مسؤولية عن انتهاك المجال الجوي بل حاولت بعض وسائل الإعلام المقربة من الكرملين إلقاء اللوم على أوكرانيا. هذا النهج الدعائي هو في الواقع جزء من حرب المعلومات والحرب النفسية التي يشنها الكرملين بهدف إضعاف حلف الناتو. يُظهر هذا النهج أن موسكو لا تعتبر انتهاك المجال الجوي البولندي خطوة عسكرية، بل أداة لاختبار القوة العسكرية للجبهة الغربية واستخدامه دعايةً لتقويض معاهدة الناتو.
يرى بعض المحللين أن هذا الإجراء يكشف عن ضعف الناتو النسبي في مواجهة تهديدات الطائرات المسيرة الروسية، ويؤكد على ضرورة تعزيز الدفاع المشترك القائم على التكنولوجيا. ويعتقدون أن أنظمة الدفاع الحالية مصممة أساسًا لمواجهة الصواريخ والتهديدات التقليدية، [5]وليست فعالة بشكل خاص ضد الهجمات الجماعية بالطائرات المسيرة لأن تكلفة أسلحة الدفاع المشترك وإسقاط كل طائرة مسيرة أعلى بكثير من تكلفة إنتاجها واستخدامها من قبل روسيا. ويرى المحللون أنه لمنع تكرار هذه الأحداث، ينبغي على الناتو التوجه نحو دفاع مشترك وتكنولوجي يشمل الاستخدام المتزامن لأنظمة مضادة للطائرات المسيرة منخفضة التكلفة، وتقنيات الليزر والحرب الإلكترونية وإلا فلن تكون لديه قوة فعّالة ضد التهديدات الروسية الجديدة.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن انتهاك المجال الجوي والأمن في أوروبا الشرقية من قبل طائرات مسيرة روسية كشف أن تحالف الناتو ضد روسيا لا يزال هشًا. إن اختلاف وجهات النظر بين القادة الغربيين، ومحدودية الردود التشاورية بالإضافة إلى خطر الطائرات المسيرة الرخيصة كلها عوامل تُضعف تماسكهم. كذلك قد تُمثل آليات دفاع الناتو بموجب المادة الرابعة من المعاهدة وتنفيذ برامج مثل "الحارس الشرقي"، خطوةً نحو تعزيز دفاعات حلفاء الحلف لكن الخبراء يعتقدون أنه بدون تطوير تكنولوجي وأنظمة مُدمجة جديدة مضادة للطائرات المسيرة، لن يكون الردع الحقيقي للناتو ممكنًا. وحتى ذلك الحين، ومع تكثيف الناتو لإجراءاته الرادعة ضد الكرملين من المرجح أن نرى روسيا تزيد من قوتها العسكرية وأنها الآن تستغل ضعف الحلف لأغراضها الدعائية وتوسيع نفوذها.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال