ستارمر ضد حزب العمال!
293 Views

ستارمر ضد حزب العمال!

مع نهاية عام ٢٠٢٤ شهدت بريطانيا احتجاجات متزايدة من المزارعين ضد إصلاحات ضريبة الميراث. مثّلت هذه التغييرات التي أعلنتها وزيرة الخزانة راشيل ريفز في ميزانية الخريف تحولاً كبيراً في طريقة فرض الضرائب على الأصول الزراعية عند الميراث، منهيةً بذلك عقوداً من الإعفاء الكامل من ضريبة الأراضي الزراعية. واعتبر هذا كتعديل مالي لسدّ ثغرة بقيمة ٢٢ مليار جنيه إسترليني في ميزانية المالية العامة، وسرعان ما تحوّل إلى رمزٍ لاستياءٍ واسع النطاق في المناطق الريفية، مع استمرار الاحتجاجات حتى عام ٢٠٢٥. وقد أدخلت حكومة حزب العمال هذه التغييرات بهدف إلغاء "الإعفاءات الضريبية غير العادلة" التي تدّعي أنها تُفيد الأثرياء. إلا أن ردّ فعل المجتمعات الريفية وخاصةً المزارعين قوبل بالغضب والرفض، حيث يرون في هذه السياسة تهديداً مباشراً لبقاء المزارع العائلية. لا يكشف هذا الموقف عن الضغوط المالية على المزارعين فحسب، بل يُسلّط الضوء أيضاً على الفجوة السياسية والثقافية والاقتصادية المتزايدة بين المراكز الحضرية والريفية.[1]

تكمن القضية الحقيقية في تفاصيل الإصلاحات فَ بموجب السياسة الجديدة سيحصل كل وريث على إعفاء كامل يصل إلى مليون جنيه إسترليني، مع فرض ضريبة بنسبة 20% على أي مبلغ يزيد عن ذلك. ظاهريًا تبدو هذه السياسة سخية مقارنةً بمعدلات ضريبة الميراث السابقة، لكن الظروف الخاصة بقطاع الزراعة تُشكك في هذه الفكرة إذ تتجاوز قيمة معظم الأراضي الزراعية مليون جنيه إسترليني، مع هامش ربح ضئيل للغاية. وقد ازداد هذا الوضع حدةً منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما وضع ضغوطًا على مجتمع المزارعين في المملكة المتحدة، ويُهدد قرار الحكومة الآن بتدمير العمود الفقري للزراعة في المملكة المتحدة.

في الحقيقة غالبًا ما تكون المزارع العائلية غنية بالأصول لكنها فقيرة بالسيولة؛ فرأس مالها الرئيسي هو الأرض والآلات والثروة الحيوانية، ولديها ندرة في السيولة النقدية. وعندما تنتقل هذه المزارع إلى الجيل التالي قد يضطر الورثة إلى بيع بعض أراضيهم أو معداتهم لدفع الضريبة. ويقول المزارعون إن هذا قد يؤدي إلى انهيار المزارع العائلية العريقة، وتقويض استمرارية الإنتاج وتسريع نقل الأراضي الزراعية إلى الشركات الكبرى. إن ما تقدمه الحكومة على أنه "خطوة نحو العدالة الضريبية" هو في الواقع ضغط اقتصادي، بل وحتى زوال تدريجي للمزارع الصغيرة.

تكشف الاحتجاجات أيضًا عن انقسام ثقافي وسياسي أعمق. لطالما شعر العديد من سكان الريف بالإقصاء من عمليات صنع القرار في وستمنستر. أصبحت إصلاحات ضريبة الميراث رمزًا للفجوة بين الحكومة المركزية وبريطانيا الريفية. يقول المزارعون إن السياسيين في المناطق الحضرية لا يفهمون حقائق الحياة الريفية: ساعات العمل الطويلة، وأسعار المحاصيل المتقلبة، والاعتماد الحاسم على التوريث بين الأجيال من أجل بقاء المزارع الصغيرة والمتوسطة الحجم.

هذا الشعور بالإقصاء يعمق الفجوة بين الريف والحضر. من وجهة نظرهم، فإن لندن صماء تجاه المشاكل الريفية وتركز أكثر على النخبة المالية ومطوري العقارات وقطاعات الخدمات. لهذا السبب، فإن احتجاج المزارعين ليس مجرد قضية اقتصادية؛ بل هو أيضًا مطلب للظهور والاحترام.[2]

في الوقت نفسه، تُقدّم الحكومة الإصلاحات كإجراء ضروري لتحقيق العدالة. يُجادل مسؤولو الحكومة بأن الأثرياء غالبًا ما يتهربون من الضرائب مستغلين الإعفاءات المتعلقة بالأراضي الزراعية وغيرها من الثغرات القانونية. وتجادل الحكومة بأن سد هذه المنافذ يُعدّ خطوة نحو العدالة: فلا ينبغي أن يُكرّس الميراث الامتياز الطبقي وعدم المساواة بين الأجيال.[3]

مع ذلك، يُحذّر المنتقدون من أن هذه السياسة لا تُميّز بين الأصول الإنتاجية الحقيقية للمزارعين ومخططات التهرب الضريبي للأثرياء. ويجادلون بأن النتيجة هي أن الضغط لن يقع على عاتق كبار مُلّاك الأراضي أو المستثمرين غير المُنتجين، بل على المزارعين النشطين. قد يُقلّل هذا الوضع من حافز الاستثمار في الزراعة، ويُثني الشباب عن مواصلة العمل في المزارع ويُضعف الأمن الغذائي للبلاد على المدى الطويل.

سرعان ما امتدت هذه المخاوف إلى الشوارع. منذ أواخر عام 2024 عبّر المزارعون عن احتجاجهم بصفّ الجرارات والتنقل في كرفانات في عشرات المدن، وحتى في وسط لندن. استقطب وجود الآلات الثقيلة في شوارع المدن اهتمام وسائل الإعلام، كما حظي بتعاطف شريحة من الجمهور. سعى المتظاهرون إلى تصوير مشكلتهم كقضية عامة وليست ريفية بحتة: من ارتفاع تكاليف الطاقة والأسمدة إلى انخفاض الدخول وتزايد الديون. أصبحت حياة المزارعين اليومية ملموسة لكثير من المواطنين، وهي تُذكّر بهشاشة الإنتاج الغذائي المحلي والأمن الغذائي في عالم مضطرب. [4]

لا شك أن لهذه الاحتجاجات عواقب سياسية وخيمة. قد يُضعف استمرارها القاعدة الاجتماعية لحزب العمال في المناطق الريفية، ويُتيح فرصة لحزب المحافظين والحركات الشعبوية اليمينية لتقديم أنفسهم كداعمين للمزارعين. من منظور اقتصادي، أدى عدم اليقين الناجم عن هذه الإصلاحات إلى انخفاض الاستثمار في القطاع الزراعي، وزاد من احتمالية بيع المزارع مبكرًا للشركات الكبرى أو الخروج التدريجي للأسر الزراعية مما قد يؤثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي.

يحدث هذا التوتر بين السياسة الضريبية والقدرة الإنتاجية أيضًا في وقت لا تزال فيه سلاسل التوريد العالمية غير مستقرة، ولا تزال عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون حل. لذلك قد تكون المواجهة بين المزارعين والحكومة أحد المحاور الرئيسية للمعركة السياسية حتى الانتخابات المقبلة.

وصلت حكومة ستارمر إلى السلطة واعدةً بإنعاش الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن إصلاحات ضريبة الميراث تُظهر أن الحكومة لم تكن ناجحةً جدًا في موازنة الأهداف الضريبية مع واقع الحياة الريفية. فبدلًا من حماية المزارعين من عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وارتفاع تكاليف الإنتاج وأزمات الطاقة، وضعتهم هذه الإصلاحات في وضعٍ أكثر صعوبة.

ونتيجةً لذلك، يجد المزارعون أنفسهم ضحايا سياساتٍ قصيرة الأجل أكثر منها واقعية، بلا رؤية طويلة الأجل. إذا استمر حزب العمال على هذا المسار، فمن المرجح أنه لن يفشل في سد الفجوة الاجتماعية فحسب، بل سيُقوّض أيضًا بسبب موقفه الانتخابي. في هذه الفترة من الاضطرابات الاقتصادية يبدو أن المزارعين البريطانيين هم الخاسرون الرئيسيون مرةً أخرى من سياسات الحكومة المضللة.



أمين مهدوي

[1] Starmer ‘plans rise in inheritance tax’ to ease debt crisis | The Independent
[2] Farmers ask for inheritance tax meeting with Rachel Reeves | Inheritance tax | The Guardian
[3] What's the beef with farmers' inheritance tax? | Money News | Sky News
[4] British farmers protest against ‘tractor tax’ on inheritance | Government News | Al Jazeera
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال