لطالما قدّمت فرنسا نفسها كلاعب محوري في السياسة الأوروبية والعالمية؛ بأنها دولة حافظت دائمًا على التوازن بين المحافظة على استقلالها التقليدي ومشاركتها الفعالة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي والتحالفات الدولية. إلا أن الأزمة الداخلية الحالية في باريس قوّضت مصداقية السياسة الخارجية الفرنسية. فالرئيس إيمانويل ماكرون، الذي قدّم نفسه يومًا ما كمصلح ومهندس للمستقبل الاستراتيجي لأوروبا يواجه الآن تحديات داخلية حادة تُقلّل من سلطته بين منافسيه وشركائه. وهذا له تأثير مباشر على دور فرنسا العالمي بدءًا من إضعاف مكانة الرئيس في العلاقات الخارجية ووصولًا إلى الضغوط المالية والاقتصادية على الشؤون الداخلية. في الواقع لم يكن الارتباط والفجوة بين السياسة الداخلية والتزامات فرنسا الخارجية بهذه الوضوح من قبل.
تقليديًا، اعتُبرت السياسة الخارجية الفرنسية "مجالًا محجوزًا" أو مجالًا حصريًا للرئيس؛ سلطة تمنحه صلاحيات واسعة في مجالات الدفاع والدبلوماسية والأمن. هذا النموذج، القائم على النموذج الديغولي (خطة صلاحيات وضعها الجنرال ديغول)، الذي سمح لقادة من شارل ديغول إلى فرانسوا ميتران بإدارة السياسة الخارجية باستقلالية ملحوظة. لكن موقف ماكرون يواجه الآن تحديًا بسبب أزمة داخلية عميقة ظهرت، تشمل احتجاجات اجتماعية، ومعارضة برلمانية، وتهديدًا بسحب الثقة من رئيس الوزراء.[1]
هذه الاضطرابات السياسية تقوض السلطة التقليدية للرئيس، على الرغم من أن ماكرون لا يزال يسيطر قانونيًا على السياسة الخارجية، إلا أن تراجع شرعيته المحلية يعني أنه لا يستطيع التحدث بنفس القوة على الساحة العالمية. يتساءل كل من الحلفاء والمنافسين بجدية عما إذا كان قادرًا على الوفاء بالتزاماته الدولية في حين أن مكانته في الداخل مهتزة.
إحدى النتائج المحتملة للأزمة الحالية هي استمرار الوضع الراهن؛ أي أن ماكرون سيبقى في منصبه لكنه سيضطر إلى الاعتماد على رئيس وزراء معتدل لإدارة الشؤون الداخلية. وبينما سيساعد هذا على البقاء، فإنه سيضعف أيضًا ماكرون في السياسة الخارجية. في هذا السيناريو سينظر القادة الأجانب وخاصةً في واشنطن وموسكو وكييف إلى الرئيس الفرنسي على أنه أقل نفوذًا وأقل جدارة بالثقة. وهذا مهمٌّ بشكل خاص في حالة أوكرانيا.
لطالما قدّمت فرنسا نفسها كقوة موازنة، تارةً داعمةً قويةً لحلف الناتو، وتارةً أخرى داعمةً للحوار مع روسيا. لكن ماكرون الضعيف لن يكون قادرًا على القيادة أو التوسط بين المواقف المتعارضة. وسيتقلص دوره في المفاوضات المباشرة مع بايدن وبوتين وزيلينسكي بشكل كبير، وسيتضاءل وزن فرنسا في تحديد النتائج. في الواقع سيعني هذا أيضًا تراجعًا في نفوذ فرنسا على المدى الطويل في هيكل النظام الدولي.[2]
السيناريو الثاني هو ظهور حالة من التعايش الهش بين ماكرون والمعارضة في الجمعية الوطنية، وخاصة مع أحزاب يمين الوسط المقربة منه. من شأن هذا الترتيب أن يُرسل رسائل متناقضة في السياسة الخارجية الفرنسية. ففي قضية أوكرانيا ستؤكد حكومة ماكرون التزامها الكامل بكييف ودورها في الائتلاف الأوكراني لكن العديد من المعارضين سيكونون أكثر حذرًا بل وحتى مشككين بشأن استمرار المساعدات. وفي قضية غزة أيضًا ستكون التناقضات أكثر وضوحًا وستحول المواقف المتضاربة دون تبني سياسة موحدة.
ستكون نتيجة هذا الوضع سياسة خارجية غامضة ومتعددة التوجهات. لن يكون لدى الحلفاء فهم واضح لأولويات باريس، وسيستغل المنافسون هذه الثغرات. وبالتالي ستُقوّض مصداقية فرنسا كفاعل دبلوماسي متماسك وسيُشكك في ادعائها التاريخي بالقيادة الاستراتيجية في أوروبا.[3]
الاحتمال الأكثر تطرفًا هو استقالة ماكرون؛ وهو حدث قد ينتج عن جمود داخلي أو فشل في استعادة السيطرة من خلال استفتاء أو انتخابات مبكرة. ستُغرق هذه الخطوة فرنسا في فراغ سياسي لمدة شهر على الأقل، مما يُشلّ سياستها الخارجية فعليًا. وخلال هذه الفترة الانتقالية ستُستبعد فرنسا من العمليات الدبلوماسية رفيعة المستوى. وسواءً في حلف الناتو، أو مجموعة الدول السبع، أو في المفاوضات بشأن أوكرانيا وجنوب غرب آسيا ستفقد باريس مكانتها. كما سيُضعف دور فرنسا في تحالف أوكرانيا بشدة مع إجبار ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة على ملء الفراغ. وفي تحالفات دولية أخرى لعبت فيها فرنسا دورًا بارزًا، كما هو الحال في غرب إفريقيا أو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، سيُشعر أيضًا بغياب قيادة باريس مما سيؤدي إلى تغيير في نهج الحلفاء تجاه باريس في المستقبل.
إلى جانب هذه السيناريوهات السياسية، هناك أيضًا قيود اقتصادية خطيرة. يعكس عجز ميزانية فرنسا، المتوقع أن يصل إلى 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، وهو ما يتجاوز بكثير هدف الاتحاد الأوروبي البالغ 3%، عمق المشاكل المالية التي تعاني منها البلاد. ويحمل هذا الضغط الاقتصادي والميزاني عواقب مباشرة على السياسة الخارجية، إذ يحد من موارد فرنسا المخصصة لتحديث الدفاع أو المساعدات الخارجية أو العمليات العسكرية الجارية.[4]
في النتيجة ستضطر باريس إلى الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على شركائها، وخاصة ألمانيا وبريطانيا لتحمل مسؤوليات مشتركة. بالنسبة للحلفاء الأوروبيين يُشكّل هذا عبئًا مزدوجًا ففي الوقت الذي تواجه فيه القارة تهديدات أمنية غير مسبوقة، يتعين على إحدى قواتها المركزية معالجة القضايا الداخلية والقيود الاقتصادية لضمان بقائها مما سيؤدي إلى إضعاف أوروبا.
لذا، تُمثّل الأزمة الداخلية في فرنسا تضافرًا للإخفاقات المؤسسية والسياسية والاقتصادية التي تُقوّض مجتمعةً السياسة الخارجية للبلاد. لم تعد سلطة الرئيس ماكرون التقليدية، رغم حمايتها بموجب دستور الجمهورية الخامس، كافيةً لقوة فرنسا ونفوذها في عالمٍ متغير. لقد أدى عدم الاستقرار السياسي المستمر الذي يُغذّيه عجزٌ كبير في الميزانية وانعدام ثقة الجمهور إلى عجز الحكومة عن معالجة القضايا الداخلية الأساسية وأدى إلى فقدان مصداقيتها على الساحة الدولية.
يُشكّل هذا التوتر الداخلي خطرًا كبيرًا على الاتحاد الأوروبي بأكمله، إذ قد يكون له "آثار جانبية طويلة المدى" تتجاوز مجرد تهميش ماكرون في منعطف جيوسياسي متقلب. تُعتبر الأزمة بمثابة "تأثير الدومينو" الذي ينبغي أن يُقلق القادة الأوروبيين الرئيسيين الآخرين. كما تُخاطر فرنسا بأن تُصبح قوةً غير فعّالة في غياب حكومة مستقرة ومسار واضح لحل تحدياتها المالية، وستُطغى الحاجة المُلحة للاستقرار الداخلي على طموحاتها في السياسة الخارجية، وستتضاءل قدرتها بشكل كبير على القيادة في القضايا التي تتصدرها من الدفاع الأوروبي إلى الاستقلال الاستراتيجي. في نهاية المطاف وبغض النظر عمّا إذا كان المستقبل السياسي ينطوي على استمرار الوضع الراهن، أو التعاون مع اليمين المتطرف أو استقالة ماكرون فإن الأزمة الفرنسية لم تعد مُجرد مُشكلة فرنسية؛ بل هي مُتغير حاسم في مستقبل استقرار أوروبا والتحالف الغربي.
أمين مهدوي
[1] De Gaulle Steps Down | Research Starters | EBSCO Research
[2] Experts react: The French government has collapsed again. What does this mean for France, the EU, and Macron? - Atlantic Council
[3] Far-right National Rally ready to govern France, Jordan Bardella says at manifesto launch | France | The Guardian
[4] https://www.insee.fr/en/statistiques/8542247
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال