بعد اللقاء الأخير بين ترامب وبوتين في ألاسكا والذي عُقد تحديدًا بعد فترة طويلة من الضغوط الشديدة التي مارستها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا عبر فرض عقوبات قاسية وفي الوقت نفسه مقاومة بوتين لهذه الإجراءات، نشهد الآن أن هذا اللقاء في ألاسكا أصبح رمزًا لانتصار روسيا الدبلوماسي وأن تحقيق مطالب بوتين قد انعكس وظهر على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.
واعتُبر الاستقبال الرسمي الذي حظي به بوتين على الأراضي الأمريكية، والذي رافقته مراسم عسكرية وسجادة حمراء خاصة، مؤشرًا على انتهاء مساعي عزل روسيا سياسيًا وفشل العقوبات.[1] وفي هذا الصدد، أعربت وسائل الإعلام الروسية عن ارتياحها وتحدثت عن هذا الحدث، معتبرةً إياه مقدمةً لرفع العقوبات والضغط على روسيا. [2]كما شهدنا فشل سياسة عزل روسيا وفشل جهود الغرب التي استمرت لسنوات مع الأوروبيين لعزل موسكو، عاد الكرملين إلى قلب المعادلات الدولية. وقد أعلنت قمة موسكو وواشنطن الأخيرة في ألاسكا أن هذا الاجتماع لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي. والآن بعد فشلها في إبعاد روسيا عن الساحة السياسية اضطرت الولايات المتحدة إلى قبول الحوار مع روسيا. في الوقت نفسه أثبتت محادثات ألاسكا أن روسيا عززت مكانتها بالاعتماد على مواردها وقدراتها المحلية، وتقليل اعتمادها على النظام المالي الغربي المهيمن، وبناء تحالفات استراتيجية في إطار النظام العالمي الجديد، وعدم الرضوخ للضغوط. [3]
إن عودة روسيا إلى التفاعلات الدولية تُعدّ نوعًا من التغيير في ميزان القوى، مما يُثبت أن العقوبات وفرض العزلة لا يكفيان لاحتواء روسيا على الساحة الدولية. في هذا الصدد نعلم أنه على هامش هذا الاجتماع في ألاسكا، جرت مناقشات حول عودة الشركات والعمالقة الاقتصاديين الأمريكيين إلى الأسواق الروسية والتفاعل مع موسكو. ويُعدّ استئناف التعاون الاقتصادي والاستثمار الأمريكي في روسيا قضيةً تُعدّ رمزًا رسميًا لانتهاء فترة الضغط الأقصى على روسيا. ويبدو أن محادثات ألاسكا كانت خطوةً كبيرةً لروسيا في جذب كبار المستثمرين الأمريكيين والغربيين.
تجدر الإشارة إلى أن خروج روسيا من عزلتها، والقمة الأخيرة في ألاسكا حملتا رسالة مهمة مفادها أنه بدون حضور موسكو على الساحة الدولية لا يمكن حل أيٍّ من الأزمات، سواء في أوكرانيا أو في القضايا العالمية المهمة. والآن تُجبر الدول الغربية والولايات المتحدة على قبول دور روسيا كقوة دولية فاعلة في تغيير مسار العالم. وهذا يعني تغييرًا في ميزان القوى وهو تغييرٌ ناتج عن مقاومة موسكو للعقوبات التي فرضها الغرب على مر السنين.[4]
هذا التغيير في ميزان القوى إلى جانب تعزيزه لموقف بوتين داخل روسيا من خلال عودته إلى طاولة المفاوضات مع الرئيس الأمريكي، وتحقيقه إنجازًا سياسيًا كبيرًا من شأنه أن يعزز رواية "قوة روسيا التي لا تُقهر" لدى الرأي العام المحلي سيؤدي أيضًا إلى المزيد من التحديات لحلفاء واشنطن الأوروبيين. ذلك أن التقارب بين واشنطن وموسكو أثار قلقًا بالغًا لدى الدول الأوروبية وخاصةً دول أوروبا الشرقية.
من المنظور الأوروبي، قد يؤدي هذا التقارب بين بوتين وترامب في نهاية المطاف إلى تراجع الثقل الأمني لحلف الناتو وإضعاف الجبهة الغربية ضد روسيا. وقد أدى هذا القلق إلى ردود فعل رسمية وغير رسمية من المسؤولين الأوروبيين في الأيام الأخيرة بشأن الوضع والتحديات بين أعضاء الناتو، بالإضافة إلى تأثير اجتماع ألاسكا على تراجع أمن حلف شمال الأطلسي. ويعتقد بعض المسؤولين الأوروبيين أن هذا الاجتماع وتصرفات ترامب كانتا مؤشرًا على تراجع أمريكا.[5]
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن عملية عقد اجتماع ألاسكا، وإن كانت تُقر ضمنيًا بخروج روسيا من عزلتها، إلا أنها تُشير إلى تغيير في ميزان القوى على المستوى العالمي ولذلك أثارت مخاوف عميقة على المستوى الأوروبي. فمن وجهة نظرهم فإن أي تراجع من جانب الولايات المتحدة سيُعرّض الأوضاع في أوروبا لخطر جسيم. والسبب واضح جليًا: فقد تكبد الاتحاد الأوروبي لسنوات تكاليف باهظة للحفاظ على عقوباته ضد روسيا، والآن يجد نفسه في وضع يُستبعد فيه تدريجيًا من اللعبة. علينا أن نضع في اعتبارنا أن قمة ألاسكا بين روسيا والولايات المتحدة كانت أكثر من مجرد اتفاق عملي من أجل السلام الدائم بل كانت بمثابة تغيير جيوسياسي ورمزي، وبالطبع تحول في ميزان القوى وانتقال من النظام الأحادي القطب التقليدي المتمركز حول الغرب إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث برزت روسيا مرة أخرى بعد سنوات كلاعب حاسم لا مفر منه في ظل "فشل الغرب في مشروع عزل روسيا".
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال