قنبلة ترامب التجارية
253 Views

قنبلة ترامب التجارية

قنبلة ترامب التجارية : كيف تُهدد الرسوم الجمركية الكاملة بتقويض "العلاقة الخاصة" مع بريطانيا
اعتُبر توقيع اتفاقية الازدهار الاقتصادي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مايو 2025 إنجازًا هامًا في العلاقات التجارية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ وعدت بتخفيض الرسوم الجمركية في قطاعات رئيسية مثل السيارات والصلب والألمنيوم. وقد أُشيد بها كإطار عمل لتعميق العلاقات الاقتصادية، وكان هدفها زيادة التجارة الثنائية بمليارات الدولارات، مما يخلق فرص تصدير جديدة للمزارعين والمصنعين الأمريكيين، مع تقليل الحواجز أمام السلع البريطانية.

ومع ذلك وبعد بضعة أشهر فقط، أدت تهديدات الرئيس الأمريكي ترامب بفرض رسوم جمركية صارمة إلى تفاقم هذه الاتفاقية الناشئة، كاشفةً عن نقاط ضعف قائمة ومُشكّلةً ضغوطًا على حكومة المملكة المتحدة بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر. أحدثت قرارات ترامب في سبتمبر 2025، بما في ذلك فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الأدوية والأفلام الأجنبية، ورسوم جمركية بنسبة 25% على الشاحنات الثقيلة، اضطرابًا في سلاسل التوريد وأعادت أيضًا إشعال النقاشات حول دور الحمائية في التجارة العالمية. يُمثل هذا الحدث صدمة سياسية واقتصادية قد تُضعف أسس التحالفات عبر الأطلسي.

بالنسبة لبريطانيا وخاصةً لحكومة ستارمر، يُمثل موقف ترامب صدمة سياسية واقتصادية. فقد دخلت حكومة حزب العمال التي تأمل في استقرار الوضع الاقتصادي بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي، في اتفاقية مايو معتمدةً على العلاقات التجارية مع حليفها القديم لتعويض بعض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إلا أن التحول المفاجئ في نهج ترامب وعودته إلى سياسات تعريفات جمركية صارمة حوّل هذا الأمل إلى نقطة ضعف. فقد أصبحت الاتفاقية التي كان الهدف منها تحقيق الاستقرار، رمزًا لهشاشة وضعف هيكلي في السياسة التجارية البريطانية، مما وضع حكومة ستارمر في موقف حرج بين الضغوط الداخلية للحفاظ على الاستقلال الاقتصادي وضرورة الحفاظ على التحالف مع أمريكا.

تتحمل الصناعات الرئيسية في المملكة المتحدة العبء الأكبر من هذا النهج، مع عواقب مباشرة على الصادرات والتكاليف. يواجه قطاع الأدوية، وهو عصب الاقتصاد البريطاني خطر فرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على الأدوية ذات العلامات التجارية. وبينما قد تتمتع شركات عملاقة مثل جلاكسو سميث كلاين (GSK) وأسترازينيكا بالحماية بفضل استثماراتها الواسعة ومرافق الإنتاج في الولايات المتحدة، تفتقر الشركات الأصغر إلى هذه الميزة. وقد تواجه هذه الشركات، التي تعتمد على الصادرات إلى السوق الأمريكية المربحة، انخفاضًا في أحجام الصادرات وزيادة في التكاليف التشغيلية، مما قد يؤثر على الابتكار ونمو الوظائف. وبالمثل تواجه قطاعات التصنيع المستهدفة بتعريفات الشاحنات البالغة 25% تحديات مماثلة. وقد تواجه صناعتا السيارات والنقل في المملكة المتحدة، اللتان تشكلان جزءًا كبيرًا من الصادرات إلى الولايات المتحدة، زيادات في الأسعار وانخفاضًا في الطلب، مما قد يعطل سلاسل التوريد العالمية.

كما يتجلى القلق واسع النطاق في القطاع الخاص. ووفقًا لاستطلاع أجرته غرف التجارة البريطانية، أعرب حوالي 60% من المصدرين عن قلقهم بشأن التأثير المباشر لهذه الأزمة على السوق الأمريكية. حتى هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة حذّرت من احتمال ارتفاع أسعار الأدوية، مما يُرهق الميزانيات العامة ويُهدد وصول المرضى إلى الأدوية. وتتجاوز هذه المخاوف القطاعات المتضررة مباشرةً؛ فسلاسل التوريد المتكاملة تعني أن الاضطراب في أحد المجالات قد يمتد إلى قطاعات أخرى، مثل الخدمات المالية والتكنولوجيا، التي تعتمد على التجارة الحرة.

بالنسبة لحكومة كير ستارمر، تُشكّل هذه الأزمة تحديًا سياسيًا كبيرًا. يواجه رئيس الوزراء البريطاني خيارين صعبين: إما الرضوخ لواشنطن ومواجهة انتقادات داخلية، أو اتخاذ موقف أكثر صرامة والمخاطرة بحرب تجارية مع حليفه الرئيسي. قد يُنظر إلى الخيار الأول على أنه استسلام لضغوط ترامب، مما يُقوّض الدعم المحلي، وخاصة بين مؤيدي حزب العمال الذين يُقدّرون التجارة العادلة. أما الخيار الثاني فرغم أنه قد يُعزز مصداقية ستارمر كزعيم مستقل، إلا أنه قد يؤدي إلى ردّ اقتصادي يُلحق المزيد من الضرر بالاقتصاد البريطاني الهشّ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. تكمن هذه المعضلة في السياق الأوسع للعلاقات الدبلوماسية، حيث تسعى بريطانيا إلى الحفاظ على "العلاقة الخاصة" مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تُصارع فيه حقائق جيوسياسية مثل الحرب في أوكرانيا والمنافسة مع الصين.

ولكن بعيدًا عن هذا الصراع الثنائي، تُشير هذه القضية إلى تساؤل أعمق حول مستقبل العلاقات الاقتصادية الغربية. فسياسات ترامب الحمائية ليست ذات دوافع اقتصادية فحسب؛ بل تعكس موقفه السياسي الذي لا ينظر إلى التجارة كأداة للتعاون، بل كوسيلة لممارسة النفوذ الوطني.

إن استهداف حلفاء مثل بريطانيا هو في الواقع رسالة سياسية للناخبين الأمريكيين، مفادها أن ترامب يضع المصالح الأمريكية فوق أي التزام دولي. وقد أثار هذا النهج مخاوف أوروبية راسخة بشأن عدم استقرار واشنطن وعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاتها، ومن المرجح أن يُسرّع عملية تنويع العلاقات الاقتصادية الأوروبية.

في لندن، يستكشف بعض المسؤولين في وزارتي الخزانة والأعمال خيارات بديلة. وقد قُدّمت مقترحات لتوسيع التعاون مع الاتحاد الأوروبي في مجالات الأدوية والطاقة النظيفة والتجارة الرقمية. في الوقت نفسه يتحدث صناع سياسات آخرون عن توسيع العلاقات مع دول الكومنولث مثل كندا وأستراليا والهند لتقليل اعتماد المملكة المتحدة الاقتصادي على الولايات المتحدة. وبينما لا يمكن لأي من هذه المسارات أن يحل محل العلاقات التجارية مع أمريكا بشكل كامل، إلا أنها تشير إلى تحول تدريجي في استراتيجية لندن طويلة المدى.

في الختام، لا بد من القول إن تهديدات ترامب بالرسوم الجمركية قد وضعت العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي في مأزق حرج مرة أخرى. فالاتفاقية التي كان من المفترض أن تحقق الاستقرار أصبحت الآن بحد ذاتها بؤرة للتوتر وانعدام الثقة. بالنسبة لحكومة ستارمر، يتمثل التحدي الرئيسي في إيجاد توازن بين متطلبات السياسة الداخلية والواقع الجيواقتصادي؛ وهي مهمة قد تترتب عليها عواقب وخيمة، إن لم تُدار بعناية. تُظهر هذه الأحداث أن الدبلوماسية التجارية في عصر الشعبوية وتنافس القوى العظمى أصبحت أكثر هشاشة من أي وقت مضى. لا تُشكل رسوم ترامب الجمركية تهديدًا مباشرًا لصناعة الأدوية البريطانية وصادراتها فحسب، بل تكشف أيضًا عن نقاط ضعف جوهرية في العلاقة بين لندن وواشنطن. إذا استمرت الأزمة الحالية، يزداد احتمال الدخول في حرب تجارية بين حليفين غربيين تقليديين؛ وهي أزمة قد لا تُغير مستقبل اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فحسب، بل قد تُشكك أيضًا في مصداقية وتماسك التعاون الاقتصادي الغربي على نطاق أوسع.



محمد مهدي إسماعيل خانيان

1- https://subscriber.politicopro.com/article/2025/09/trump-tariff-threats-punch-holes-in-uk-trade-deal-00588118
2- https://www.reuters.com/business/healthcare-pharmaceuticals/britain-says-pushing-better-outcome-us-pharma-tariffs-2025-09-26/
3- https://www.nytimes.com/2025/09/26/business/europe-pharma-tariffs-trump.html
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال