مؤشرات كبيرة لتغييرات جذرية قادمة في فرنسا
1267 Views

مؤشرات كبيرة لتغييرات جذرية قادمة في فرنسا

لطالما كانت فرنسا بلداً يرمزُ للتعبير عن حرية الرأي، حيث تُعدّ الإحتجاجات والمسيرات والمظاهرات جزءًا لا يتجزأ من نسيجها السياسي والاجتماعي، لكن ما يلفت الانتباه اليوم هو الطابع الجديد لهذه الاحتجاجات. هذه المرة ليست مجرد احتجاج مؤقت أو رد فعل على قانون محدد بل هي مؤشر على أزمة أعمق قد تكون مكلفة لكل من حكومة إيمانويل ماكرون واستقرار الاتحاد الأوروبي.

في الأسابيع الأخيرة شهدت مدن مثل باريس ومرسيليا وليون مسيرات حاشدة. يسود الغضب بين الناس إزاء تفاقم الوضع الاقتصادي، وارتفاع تكلفة الطاقة والوقود وتراجع قدرتهم الشرائية. لم يعد هذا الاستياء يقتصر على فئة أو مهنة محددة؛ بل يشمل شريحة واسعة من المجتمع من عمال النقل والممرضين إلى المعلمين وأسر الطبقة المتوسطة.

السبب الأساسي لهذه الأزمة بالطبع اقتصادي بحت وبلغ التضخم في فرنسا أعلى مستوياته منذ عقود وارتفعت تكاليف الطاقة بأكثر من 20% في غضون ذلك طرحت حكومة ماكرون خططًا لخفض الإنفاق العام وإصلاح نظام التقاعد للسيطرة على عجز الموازنة. يرى كثير من المواطنين أن هذه الإصلاحات غير عادلة إذ أثقلت كاهل الطبقات المتوسطة والمنخفضة الدخل في الغالب، بينما نجت الطبقات الغنية والعليا، وقد غذّى هذا الشعور بالتمييز شعورًا بالعدالة بين الناس مما دفعهم إلى النزول إلى الشوارع.

كما رأت النقابات العمالية في مناخ السخط هذا فرصة لزيادة الضغط على الحكومة. وقد أثرت الإضرابات المنسقة في قطاعات حيوية مثل السكك الحديدية والمستشفيات والتعليم على الحياة اليومية لملايين الناس. وبالإضافة إلى تعطيل الخدمات العامة، تُظهر هذه الإضرابات أن السخط لم يعد محليًا بل شمل أغلب البلاد. لم تعد شعارات الشعب تدعو فقط إلى إلغاء قانون محدد بل تطالب باستقالة الحكومة ووضع حد لـ"سياسات التقشف".

ولكن ما يميز هذه الجولة من الاحتجاجات عن سابقتها هو توجهها الأيديولوجي. من بين الشعارات ولأول مرة مطالب كبيرة بـ"الخروج من الاتحاد الأوروبي" والعودة إلى "الهوية الوطنية". يُظهر هذا التطور أن الأزمة الحالية تتجاوز مجرد أزمة اقتصادية بل هي أزمة هوية وسياسية. إذا استمر هذا التوجه فمن المحتمل أن تفوز التيارات القومية اليمينية المتطرفة في الانتخابات المقبلة، وهو ما قد يُحوّل "خروج فرنسا" من فكرة بعيدة إلى واقع ملموس. سيكون هذا التطور بمثابة زلزال سياسي ليس فقط لفرنسا بل لهيكل الاتحاد الأوروبي بأكمله.

كان لهذه الأزمة تأثير مباشر على موقف ماكرون وتُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن نسبة تأييده تقل عن 30%، وهي الأدنى منذ إعادة انتخابه عام 2022. تستغل أحزاب المعارضة اليسارية واليمينية على حد سواء هذه الفرصة لتقويض الحكومة. وصفت مارين لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف حكومة ماكرون بأنها "أداة في يد بروكسل" ووعدت بتحرير فرنسا من هيمنة الاتحاد الأوروبي في حال فوزها. بالإضافة إلى جاذبيتها المحلية قد تلقى هذه الرؤية ترحيبًا من جهات دولية فاعلة مثل الصين التي تحرص على إقامة علاقات مع فرنسا أكثر استقلالية.

في الوقت نفسه يرى اليسار المتطرف الذي يركز على العدالة الاجتماعية سياسات الحكومة "معادية للشعب". ولكن تجدر الإشارة إلى أن أيًا من هذه الحركات لم يقدم خطة شاملة لحل الأزمة الاقتصادية؛ بل إنهم يعملون على خلق جو إعلامي وتعزيز شعور بعدم الثقة في الحكومة.

لم تكن حكومة ماكرون بعيدة أيضًا عن الأحداث في محاولة لتهدئة الأجواء وقد علّقت الحكومة بعض الإصلاحات ووعدت بأخذ أصوات الشعب على محمل الجد. لكن العديد من الخبراء يعتقدون أن هذه الإجراءات الشكلية غير كافية، وأن على الحكومة اتباع نهج أكثر عملية وأقل أيديولوجية في سياستها الداخلية.

تتابع وسائل الإعلام الأوروبية هذه التطورات بقلق. فقد حذّرت الصحف الألمانية والإسبانية من أن السخط الفرنسي قد يمتد إلى دول أعضاء أخرى في الاتحاد الأوروبي. كما تشعر بروكسل بالقلق فإذا لم يتمكن ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي من إدارة هذه الأزمة فإن مصداقية المشروع الأوروبي المتكامل بأكمله ستكون موضع شك.

وأخيرًا فإن احتجاجات اليوم في فرنسا ليست مجرد انعكاس لسياسات ماكرون الداخلية فهذه الأزمة تتقاطع فيها ثلاثة تحديات رئيسية:
1- الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، والعقوبات وسياسات الطاقة الخضراء المكلفة.
2- الأزمة الاجتماعية الناجمة عن اتساع الفجوة الطبقية والسياسات المالية غير العادلة.
3- الأزمة السياسية الناجمة عن تراجع ثقة الجمهور في المؤسسات الديمقراطية.

هذه التطورات جزء من أزمة أوسع نطاقًا في نموذج الرعاية الاجتماعية الغربي. نموذجٌ يتآكل الآن في مواجهة الضغوط الجيوسياسية والمنافسة العالمية وصعود الشعبوية. وفرنسا شأنها شأن العديد من الدول الغربية على وشك إعادة تعريف هويتها وأخلاقها ومستقبلها السياسي وقد تكون احتجاجات اليوم مجرد بداية لسؤال أكبر:

هل ستكون أوروبا اليوم هي أوروبا الغد؟ ستُحدد إجابة هذا السؤال ليس فقط في شوارع باريس بل في مصير العالم الغربي بأسره.



أمين مهدوي
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال