مقامرة أمريكية عالية الخطورة، تغيير النظام في كاراكاس
في السنوات الأخيرة تكثفت السياسة الخارجية الأمريكية العدوانية تجاه حكومة نيكولاس مادورو في فنزويلا، مركزةً على تغيير النظام. وقد رافقت هذه السياسات التي تعود جذورها إلى الأيام الأولى لرئاسة دونالد ترامب أدواتٌ مثل العقوبات الاقتصادية والضغط العسكري ولوائح الاتهام القضائية. الهدف الرئيسي من هذا النهج هو إزاحة مادورو وإقامة حكومة تتماشى مع مصالح واشنطن.
الضغط المباشر على القيادة الفنزويلية
من أبرز جوانب سياسة إدارة ترامب الاستهداف المباشر للقيادة الفنزويلية. ففي خطوة غير مسبوقة في مارس 2020، أي في السنة الأخيرة من إدارة ترامب الأولى اتهمت وزارة العدل الأمريكية نيكولاس مادورو وعددًا من كبار المسؤولين الفنزويليين بالإرهاب وتهريب المخدرات والفساد. ورُصدت مكافأة قدرها 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو. لم تكن هذه الخطوة مجرد أداة دبلوماسية أو قانونية، بل كانت بمثابة بيان سياسي واضح بأن الهدف النهائي لواشنطن ليس المفاوضات أو الإصلاحات، بل الإطاحة الفعلية أو القضائية بالزعيم الفنزويلي. صُممت هذه الاستراتيجية لنزع الشرعية عن مادورو تمامًا على الساحة الدولية وإحداث شرخ بين الموالين له. لكن عمليًا عززت هذه الخطوة من تأييد مؤيدي الحكومة ضد "الإمبريالية الأمريكية" وتمكن مادورو من استغلالها كأداة لتعزيز سلطته المحلية.
حالياً وبعد خمس سنوات، في السنة الأولى من إدارته الثانية كثّف ترامب جهوده رافعًا مكافأة القبض على مادورو إلى 50 مليون دولار.[1]
الخيار العسكري كأداة ضغط
في الوقت الذي كثّفت فيه إدارة ترامب الضغط القانوني والاقتصادي، استخدمت الضغط العسكري كرافعة نفسية. إن نشر السفن الحربية والقوات العسكرية في البحر الكاريبي بالقرب من الساحل الفنزويلي تحت ستار "عملية مكافحة المخدرات"، يبعث برسالة إلى كاراكاس مفادها أن الخيار العسكري مطروح. على الرغم من اعتقاد العديد من المحللين أن شن هجوم عسكري مباشر أمر مستبعد نظرًا للتكاليف السياسية والبشرية الباهظة، إلا أن مجرد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة يخلق جوًا من التهديد والريبة. تهدف هذه الاستراتيجية إلى ترهيب النخبة العسكرية الفنزويلية وتشجيعها على الانقلاب على مادورو. ومع ذلك لم تُحدث هذه التهديدات ثغرة خطيرة في بنية القوات المسلحة الفنزويلية بل كانت في الأساس وسيلةً لاسترضاء المتشددين المحليين في واشنطن.[2]
العواقب الإنسانية للعقوبات وتفاقم أزمة الهجرة
لقد كان أشدّ وأبرز ما في سياسة الولايات المتحدة هو فرض عقوبات اقتصادية خانقة، لا سيما على شركة النفط الوطنية الفنزويلية. هذه العقوبات التي قطعت مصدر الدخل الرئيسي للحكومة أدّت إلى انهيار الاقتصاد الفنزويلي المتعثر أصلاً انهياراً كاملاً.
ورغم أن الهدف المعلن لهذه العقوبات كان الضغط على حكومة مادورو، إلا أن ضحاياها الرئيسيين كانوا من عامة الفنزويليين. فقد أجبر نقص الغذاء والدواء والخدمات الأساسية الملايين على الفرار من البلاد مما خلق واحدة من أكبر أزمات الهجرة في نصف الكرة الغربي.
وأثرت أزمة الهجرة بشكل مباشر على الدول المجاورة وحتى على الولايات المتحدة، مما زاد من تدفق اللاجئين إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. وقد خلقت هذه النتيجة غير المقصودة تناقضاً واضحاً في سياسة إدارة ترامب؛ فالإدارة التي تنتهج سياسات هجرة صارمة من خلال أفعالها فاقمت أزمة تؤثر بشكل مباشر على حدودها. [3]
انقسامات داخلية وغياب استراتيجية موحدة
على الرغم من مظاهر العدوانية والوحدة، اتسمت سياسة إدارة ترامب تجاه فنزويلا بانقسامات داخلية عميقة. فمن جهة دعا متشددون مثل السيناتور ماركو روبيو إلى نهج أكثر صرامة وعمل عسكري. ومن جهة أخرى حذّر بعض المسؤولين في وزارتي الخارجية والبنتاغون من العواقب غير المقصودة للتدخل العسكري، وشددوا على الحلول الدبلوماسية.
وقد أدى هذا الانقسام إلى إشارات متناقضة وغياب استراتيجية متماسكة طويلة المدى. فبينما يُركّز الخطاب العام على تغيير النظام، كانت هناك أيضًا جهود محدودة وراء الكواليس للحوار وغالبًا ما تفشل بسبب الضغوط الداخلية. ونتيجة لذلك أضعف ذلك قدرة الولايات المتحدة على قيادة تحالف دولي فعال ضد مادورو.[4]
المقاومة الإقليمية ضد التدخل
لاقت سياسات التدخل الأمريكية معارضة إقليمية واسعة النطاق. وتعارض دول أمريكا اللاتينية بما فيها البرازيل والمكسيك والأرجنتين، بشكل عام أي تدخل عسكري أو تغيير للنظام من قِبَل واشنطن. وتتجذر هذه المعارضة الإقليمية في تاريخ التدخلات الأمريكية في المنطقة مثل انقلابات القرن العشرين وبدون دعمها لكان تغيير النظام صعبًا ومكلفًا.
حاولت منظمات مثل منظمة الدول الأمريكية (OAS) استبدال الضغط العسكري بالدبلوماسية، لكن الولايات المتحدة تجاهلت هذه المقترحات في كثير من الأحيان. وقد تزيد هذه المعارضة الإقليمية من عزلة الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية.[5]
العواقب المحتملة للصراع العسكري
يحذر المحللون من أن عواقب الصراع العسكري في فنزويلا قد تكون كارثية. فمثل هذه الخطوة لن تؤدي فقط إلى حرب أهلية طويلة ودموية، بل قد تتفاقم أيضًا إلى أزمة إقليمية. وقد يؤدي التدخل العسكري الأمريكي إلى تصعيد التوترات مع حلفاء مادورو الاستراتيجيين، مثل روسيا والصين، الذين لديهم مصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة في فنزويلا.
على الصعيد المحلي قد يكون الدخول في حرب جديدة أمرًا غير مقبول اقتصاديًا وسياسيًا بالنسبة للولايات المتحدة، مما يؤدي إلى أزمة عميقة في السياسة الداخلية الأمريكية والمزيد من الانقسام في مجتمع البلاد. [6]
وفي النتيجة
إن السياسة العدوانية للولايات المتحدة ضد حكومة مادورو في فنزويلا هي مثال كلاسيكي على استراتيجية فاشلة. من خلال الجمع بين العقوبات الاقتصادية المشلولة والتهديد بالضغط العسكري والاستهداف المباشر لقيادة البلاد، لم تفشل هذه السياسة في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في تغيير النظام فحسب، بل أدت أيضًا إلى تفاقم عدم الاستقرار والمعاناة الإنسانية في فنزويلا.
وقد قوضت الانقسامات الداخلية في واشنطن هذا النهج وقوبل بمعارضة إقليمية قوية في أمريكا اللاتينية. الدرس الرئيسي للمستقبل هو أن حلول الأزمات السياسية المعقدة مثل تلك التي حدثت في فنزويلا لا يمكن تحقيقها من خلال العقوبات العمياء والتهديدات العسكرية، ولكن فقط من خلال الدبلوماسية الشاملة ودعم الحوار الدولي واحترام سيادة الدول.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال