هل أمريكا تتخلف عن منافسيها ؟
312 Views

هل أمريكا تتخلف عن منافسيها ؟

لم يعد دخول عصر إزالة الكربون مجرد قضية بيئية بل أصبح أحد أهم عوامل التنافس الصناعي بين الدول. فالدول القادرة على تحقيق نماذج مستدامة ومنخفضة الكربون في وقت أقرب لن تُقلل من مخاطر المناخ فحسب، بل ستكتسب أيضًا مزايا تكنولوجية وسوقية مستقبلية. في ظل هذه المنافسة العالمية تواجه الولايات المتحدة مجموعة من المشاكل؛ بدءًا من تخلفها عن الصين والاتحاد الأوروبي في مجال إزالة الكربون الصناعي، وضغوط السوق العالمية للامتثال للمعايير البيئية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الطاقة، وعدم استقرار السياسات الكلية في الولايات المتحدة، مما يجعل التنبؤ بالمستقبل أمرًا صعبًا. إذا لم تتبنَّ الولايات المتحدة استراتيجية واضحة لتواجدها في هذا المجال خلال العقد المقبل، فإن مكانتها التنافسية في السوق العالمية ستتعرض للخطر.

تأخر أمريكا في المنافسة الخضراء
على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت دائمًا رائدة في الابتكار التكنولوجي، إلا أنها تأخرت في مجال إزالة الكربون الصناعي. يشير ضعف تنسيق السياسات الفيدرالية، والتغييرات المتتالية في اللوائح البيئية وانخفاض الاستثمار الحكومي في البنية التحتية للطاقة النظيفة، إلى ما يمكن تسميته "تأخر أمريكا" في المنافسة الخضراء. لا تزال العديد من الصناعات الرئيسية في الولايات المتحدة تعتمد على العمليات والمعدات القائمة على الوقود الأحفوري كما إن تكاليف التحول إلى تقنيات منخفضة الكربون باهظة التكاليف.

يتجلى هذا التأخر بشكل خاص في الصناعات كثيفة الكربون مثل الصلب والأسمنت والبتروكيماويات، حيث تتطلب الاستثمارات في تقنيات مثل الصلب منخفض الكربون أو المحفزات المتقدمة استقرارًا سياسيًا طويل الأجل وهو أمر غير متوقع في الولايات المتحدة.

تقدم الصين والاتحاد الأوروبي
في المقابل تتصدر الصين والاتحاد الأوروبي بالفعل المنافسة الصناعية الخضراء. لقد أصبحت الصين رائدة في سلاسل توريد الطاقة النظيفة العالمية، حيث تستثمر بكثافة في صناعة الألواح الشمسية وتوربينات الرياح وإنتاج الصلب الأخضر. على سبيل المثال تدعم الحكومة الصينية مشاريع الطاقة المتجددة والإنتاج الصناعي النظيف، وفي بعض الحالات حولت صناعات الصلب من الأساليب التقليدية إلى أساليب أقل تلويثًا. لم توافق الصين على أي مشاريع جديدة للصلب تعمل بالفحم في النصف الأول من عام 2024، مع التركيز على الأساليب ذات الانبعاثات الكربونية المنخفضة استعدادًا لنهج الحد من الصناعات الكربونية للاتحاد الأوروبي.[1]

من ناحية أخرى، يقود الاتحاد الأوروبي جهود تغيير اللوائح العالمية من خلال تصميم أدوات مثل آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) ونظام تداول الانبعاثات (ETS). تفرض آلية تعديل حدود الكربون ضريبة كربون على واردات السلع ذات الانبعاثات الكربونية العالية لمنع "تسرب الكربون" وإجبار المنتجين الأجانب على الامتثال للمعايير المحلية للاتحاد الأوروبي. كما تحدد آلية ETS سعرًا سوقيًا للكربون في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، مما يوفر حافزًا لخفض الانبعاثات.

لا يقتصر هذا المزيج من الأدوات التنظيمية على تشكيل بيئة الأعمال الأوروبية فحسب، بل يرسل أيضًا إشارة قوية إلى السوق العالمية مفادها أن المنافسة الخضراء المستقبلية تعتمد على المتطلبات البيئية.

الضغوط الخارجية على الشركات الأمريكية
حتى مع انخفاض أو تغير اللوائح الفيدرالية الأمريكية المتعلقة بالتكنولوجيا الخضراء، فإن ضغوط السوق العالمية ومطالب المستثمرين الدوليين تجبر الشركات الأمريكية على الامتثال للمعايير النظيفة. يجب على الشركات التي ترغب في التصدير إلى أوروبا مراعاة متطلبات آلية تعديل حدود الكربون أو مواجهة تكاليف إضافية. يولي كبار المشترين والبنوك وصناديق الاستثمار أهمية لعوامل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، ويدفعون باتجاه اعتماد معايير بيئية في تمويل المشاريع. وبالتالي تُجبر العديد من الشركات الأمريكية على المضي قدمًا في مسار التصنيع النظيف، ليس بسبب المتطلبات المحلية، بل بسبب الحاجة إلى البقاء في سلاسل التوريد العالمية وقلة المخاطر المالية.[2]

دور الذكاء الاصطناعي في إزالة الكربون
يُعدّ استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الطاقة أحد الآمال الكبيرة لتعويض التأخر في إزالة الكربون الصناعي في الولايات المتحدة. يُمكن للذكاء الاصطناعي تحسين استهلاك الطاقة، وتقليل الهدر وتحسين كفاءة العمليات الصناعية من خلال تحليل البيانات والخوارزميات التنبؤية. على سبيل المثال، في محطات الطاقة أو مصانع الصلب يُمكن لنماذج التعلم الآلي ضبط معايير التشغيل آنيًا للحفاظ على انخفاض استهلاك الطاقة.

بالإضافة إلى ذلك في الشبكة الذكية تُساعد خوارزميات التنبؤ بالطقس والطلب وتوليد الطاقة المتجددة على تحسين تدفق الطاقة وتقليل الهدر. كما يُمكن استخدام التعلم المُعزز العميق (DRL) للتحكم في أنظمة الشبكات الصغيرة لتحسين تدفق الطاقة بناءً على أهداف متعددة وخفض التكاليف.[3] إذا استطاعت الولايات المتحدة ترجمة ميزتها التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي إلى ميزة في صناعة الطاقة فسيكون لديها القدرة على تضييق الفجوة في القدرة التنافسية الخضراء.

عدم الاستقرار السياسي واستشراف المستقبل الصناعي
إن العقبة الأكبر أمام تقدم أمريكا هي عدم الاستقرار السياسي في سياسة المناخ. قد تتبنى كل إدارة جديدة نهجًا مختلفًا في التنظيم البيئي، وهو أمرٌ يُواجه صعوبةً في تحقيقه من قِبَل المستثمرين والقطاع الصناعي، لأن المشاريع الصناعية الكبيرة تتطلب منظورًا طويل الأجل. يُشكِّل هذا التقلب في السياسات مخاطرَ للاستثمار في التقنيات النظيفة.

ومع ذلك، فقد سنَّت العديد من الولايات الأمريكية (مثل كاليفورنيا ونيويورك وواشنطن) تشريعاتٍ مستقلةً للوائح الطاقة النظيفة وإزالة الكربون، مما يُظهر أن العمل المحلي يُمكن أن يكون جزءًا من الحل. ولكن بدون وحدةٍ فيدرالية، لا يُمكن لهذه الإجراءات المُجزأة ضمان قيادةٍ وطنيةٍ في المنافسة العالمية.
مع اقترابنا من عام 2030، تُشير الأدلة إلى أن "الاستدامة" ستصبح مؤشرًا رئيسيًا على القوة الاقتصادية والصناعية. وتُواجه الدول التي تفشل صناعاتها في تلبية معايير خفض الانبعاثات بحلول ذلك الوقت خطرَ الاستبعاد من الأسواق الرئيسية.

الخلاصة
إن السباق العالمي لإزالة الكربون من الصناعة ليس مجرد قضيةٍ أخلاقيةٍ أو بيئية بل هو أحد أهم مُحددات الوضع الاقتصادي المُستقبلي. ويعكس الوضع الحالي للولايات المتحدة تأخرها عن الصين والاتحاد الأوروبي. لقد غيّرت أدواتٌ مثل آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) ونظام تداول الانبعاثات (ETS) في أوروبا قواعد اللعبة، ووضعت الشركات الأمريكية تحت ضغطٍ في السوق العالمية. في غضون ذلك قد تُتيح التقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي في مجال الطاقة، فرصةً لتعويض هذا التأخير، شريطة استقرار عملية صنع السياسات. ويتمثل التحدي الأكبر في عدم الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة، مما يجعل الاستثمار طويل الأجل محفوفًا بالمخاطر. وإذا لم تُبادر الولايات المتحدة إلى تبني استراتيجيةٍ متماسكةٍ للإنتاج الصناعي النظيف، فقد تتخلف عن الركب في المنافسة العالمية خلال العقود القادمة وتفقد مكانتها التنافسية المستدامة.


محمد مهدي إسماعيل خانيان

[1] https://www.reuters.com/sustainability/climate-energy/china-accelerates-green-steel-shift-eu-levies-loom-researchers-say-2024-07-11/
[2] https://ccsi.columbia.edu/content/event-highlights-carbon-border-adjustments-eu-us-and-beyond
[3] https://ccsi.columbia.edu/content/event-highlights-carbon-border-adjustments-eu-us-and-beyond
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال