هل الناتو مستعد للمعركة؟
637 Views

هل الناتو مستعد للمعركة؟

بعد تزايد الهجمات الصاروخية الروسية على أوكرانيا ورصد العديد من الأجسام الطائرة المجهولة في المجال الجوي لدول البلطيق ودول أوروبية أخرى نفّذ أعضاء الناتو سلسلة من الإجراءات الرادعة. وقد حوّلت هذه التطورات أوروبا الشرقية مجددًا إلى محور النزاع الأمني ​​بين الغرب وموسكو وأعادت على نطاق أوسع مفهوم الردع ضد التهديدات غير المتكافئة إلى محور النقاشات السياسية في أوروبا.

رفعت دول البلطيق مؤخراً بما في ذلك ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلى جانب بولندا مستوى التأهب الجوي وكثّفت تنسيقها العملياتي مع القيادة المركزية لحلف الناتو في بروكسل. وجاء هذا القرار بعد ورود تقارير متكررة عن تحليق أجسام مجهولة الهوية فوق الحدود الشرقية لحلف الناتو وهجمات صاروخية روسية على المناطق الغربية من أوكرانيا. ووفقًا لتقارير مختلفة وفي إطار عملية "الحارس الشرقي"، تُحلّق مقاتلات الناتو من الدول الأوروبية الأعضاء بالتناوب فوق بحر البلطيق لتوفير غطاء جوي على مدار الساعة على الجناح الشرقي للحلف. بالإضافة إلى جانبها العسكري تحمل هذه الخطوة رسالة سياسية واضحة لموسكو مفادها أن الناتو لا ينوي الوقوف مكتوف الأيدي في وجه التهديدات الجوية الروسية.[1]

ويرى بعض المحللين أن هذه التحركات تُشير إلى تغيير جذري في فلسفة الناتو الدفاعية. في هذا السياق انقلب النهج التفاعلي التقليدي إلى سياسة الردع الاستباقي أو استعراض القوة من أجل السلام؛ بمعنى أن الناتو يسعى إلى تحييد التهديد قبل وقوعه. ورغم أن هذا التغيير أدى إلى زيادة الجاهزية والتماسك في البنية الدفاعية إلا أنه ينطوي أيضًا على خطر سوء الفهم الاستراتيجي. في الواقع قد تُعتبر أي رد فعل سريع عملاً عدوانيًا من قِبَل روسيا مما يُمهد الطريق لصراعات غير مرغوب فيها ويضع أوروبا أمام تحدٍّ كبير.

ومع ذلك من بين دول البلطيق كانت ليتوانيا سبّاقة في تطبيق سياسة الرد السريع أكثر من أي دولة أخرى. ويُعدّ تعليق الرحلات الجوية التجارية في مطارها الدولي ونشر وحدات الدفاع الجوي على الحدود مع بيلاروسيا دليلاً على التطبيق الكامل لعقيدة الناتو الجديدة. أعلنت الحكومة الليتوانية أنه سيتم اعتراض أي تهديد محتمل من الشرق، من طائرات التجسس المسيرة إلى الطائرات مجهولة الهوية إذا دخل نطاق دفاعات البلاد. ورغم أن هذا التصريح يحمل رسالة سياسية أكثر منه عملية إلا أنه يمكن النظر إليه في سياق نهج حلف شمال الأطلسي الجديد.

بالإضافة إلى أبعادها العسكرية تحمل هذه الخطوة رسالة سياسية إلى الحلفاء الأوروبيين مفادها أن الدول الصغيرة، في إطار الأمن الجماعي لحلف الناتو ترغب في لعب دور فعال في دفاعها عن نفسها دون انتظار قرارات القوى العظمى. ويمكن أن تكون هذه السياسة نموذجًا يُحتذى به لدول الناتو الحدودية المعرضة لتهديدات هجينة؛ تهديدات يتلاشى فيها الخط الفاصل بين العمليات العسكرية والسيبرانية والنفسية.[2]

من ناحية أخرى، اكتسبت بولندا دورًا حاسمًا كمحور جديد للأمن الأوروبي. ففي أعقاب انتهاك طائرات مسيرة مجهولة الهوية لمجالها الجوي في سبتمبر 2025 فعّلت وارسو المادة الرابعة من معاهدة شمال الأطلسي لأول مرة منذ الحرب الباردة. وفي أعقاب هذه الخطوة أطلق الناتو عملية "الحارس الشرقي" التي تتخذ من بولندا مركزًا لها، ووقعت حكومة البلاد عقودًا بقيمة 3.8 مليار دولار لتحديث مقاتلات إف-16 وتطوير أنظمة مضادة للطائرات المسيرة. وقد جعلت هذه التطورات بولندا محورًا استراتيجيًا لحلف الناتو في أوروبا الشرقية. وقد أدى هذا الوضع إلى جانب تعزيز الردع إلى تكثيف الضغط السياسي والعسكري لموسكو على وارسو.[3]

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأزمة الأخيرة ليست ذات طابع عسكري فحسب بل اكتسب بعدها الإعلامي والنفسي أهمية خاصة أيضًا. وقد أدت التغطية الواسعة لهذه الأحداث في وسائل الإعلام الدولية إلى إغراق الفضاء العام الأوروبي في حالة من القلق وانعدام الثقة. ووفقًا لصحيفة لوموند الفرنسية فقد نُشر في أعقاب انتهاك المجال الجوي البولندي حجم غير مسبوق من المعلومات المضللة والعمليات النفسية على شبكات التواصل الاجتماعي بهدف إضعاف ثقة الجمهور في حلف شمال الأطلسي وتعزيز الشعور بانعدام الأمن. وفي مثل هذا الجو حل الخطاب الأمني ​​محل الخطاب الدبلوماسي وأصبح الرد العسكري السريع معيارًا للشرعية السياسية. وهذه الظاهرة مهمة للغاية من منظور السياسة الدولية لأنها تُظهر أن حروب القرن الحادي والعشرين ليست فقط في ساحة المعركة العسكرية ولكن أيضًا في مجالات أخرى، والفائز هو من يتولى السرد الأول والخطاب السائد.[4]

بالاضافة إلى ذلك قد يُشير تزايد حالة التأهب الأمني ​​في أوروبا الشرقية إلى بداية مرحلة جديدة في السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي. فعلى المستوى الميداني من المتوقع أن يُرسي حلف الناتو وجودًا أكثر ديمومة على حدوده الشرقية؛ بدءًا من بناء قواعد جوية جديدة في بولندا وليتوانيا، وصولًا إلى نشر أنظمة اعتراضية في دول البلطيق وقرارات البرلمان الأوروبي الجريئة باستهداف الأهداف المعادية في الأجواء الأوروبية، جميعها تُشير إلى تغيير في نهج أوروبا.

وأيضاً سيُجبر أعضاء الناتو وخاصةً في أوروبا الشرقية على زيادة ميزانياتهم الدفاعية وإعادة هيكلة قواتهم. وقد يُؤجج هذا سباق تسلح جديد بين الغرب وروسيا، مع تزايد الضغوط الداخلية مع خفض المزايا الاجتماعية وزيادة الضرائب. لكن الخطر الرئيسي يكمن في التآكل التدريجي للعملية الدبلوماسية، لأن حالة التأهب الدائم تُقوّض الثقة المتبادلة وتزيد من احتمالية سوء الفهم الاستراتيجي. في بيئة يُنظر فيها إلى أي تحرك عسكري على أنه تهديد، يُمكن لأدنى حادث أن يُحوّل أزمة إقليمية إلى أزمة عالمية.

في نهاية المطاف، ما يحدث في أوروبا الشرقية اليوم ليس مجرد تصعيد للتوتر، بل هو نشوء نوع من الردع الهش وغير المستقر وضعٌ يُحفظ فيه الأمن باستعراض القوة، لكن هذا الاستعراض بحد ذاته قد يكون عاملاً جديداً لعدم الاستقرار. تحتاج أوروبا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحقيق توازن دقيق بين القوة والدبلوماسية. فبدون هذا التوازن قد تجد قارةٌ كبيرة نفسها على شفا سباق تسلح شامل بعد أن كافحت للحفاظ على استقرارها لعقود، سباقٌ يطمس الخط الفاصل بين الردع والصراع الفعلي بأخطر صورة ممكنة وسيكون ضحاياه جميع شعوب أوروبا بل والعالم أجمع.


أمين مهدوي


[1] cepa.org
[2] www.eurointegration.com.ua
[3] https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/poland-signs-38-billion-deal-upgrade-f-16-fighter-jets-2025-08-13
[4] https://www.lemonde.fr/en/international/article/2025/10/08/poland-hit-by-unprecedented-disinformation-attack-following-russian-drone-incursion_6746208_4
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال