لقد أصبحت القناة الإنجليزية بؤرة توتر في أزمة الهجرة العالمية وخاصة عن طريق فرنسا، حيث يحاول آلاف المهاجرين الوصول إلى المملكة المتحدة من فرنسا أملًا في الأمان وفرص العمل الأفضل. ردًا على ذلك، كثّفت فرنسا جهودها لمنع انفلات هذه المعابر وانتقلت من نهج المراقبة غير المباشر إلى التدخل البشري المباشر. وأثار هذا التغيير في السياسة، والمموّل جزئيًا من المملكة المتحدة، جدلًا كبيراً ومخاوف بشأن العواقب الإنسانية وانتهاك قوانين فرنسا والتزاماتها الأخلاقية.
غيّرت فرنسا بشكل كبير نهجها في إدارة عبور المهاجرين عبر القناة الإنجليزية. في الماضي اعتمدت السلطات الفرنسية على مواجهة المهاجرين بعد عبورهم (الردع غير المباشر). لكن الآن، تحوّل النهج نحو الردع الاستباقي. هذا يعني أن السلطات تسعى جاهدة لمنع بدء الرحلات. على سبيل المثال، في عام 2025 قامت قوات الدرك الفرنسية بثقب قوارب المهاجرين المطاطية. وثّقت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أيضًا حالةً قامت فيها الشرطة بإغراق قاربٍ يحمل عشرات المهاجرين قبالة ساحل إيكلو مُشيرةً إلى ضرورة حماية الأرواح وإنقاذها (1).
ومع ذلك، فإنّ لهذا التغيير عواقب إنسانية وخيمة. إذ يزيد إغراق القوارب من خطر انقلاب المهاجرين أو حصارهم في ظروفٍ خطرة. وتشير التقارير إلى أنّه في عام 2025، لقي ما لا يقل عن 15 مهاجرًا حتفهم في المراحل الأولى من العبور غالبًا نتيجةً لهذه التدخلات. ورغم أنّ هذه الإجراءات تهدف إلى الحدّ من عمليات العبور إلا أنّها تعرّضت لانتقاداتٍ لتعريضها الأرواح للخطر وتناقضها مع البروتوكولات الاعتيادية التي تُعطي الأولوية لسلامة المهاجرين (2).
لعبت المملكة المتحدة دورًا رئيسيًا في تغيير سياسة الهجرة الفرنسية. فمنذ عام 2018، قدّمت لفرنسا مليارات اليورو كمساعداتٍ للحدّ من الهجرة غير الشرعية، بما في ذلك زيادة الدوريات واعتراض القوارب. وقد وسّع هذا التعاون نطاقَ الرقابة على الحدود البريطانية ليشمل الأراضي الفرنسية. و رحّبت الحكومة البريطانية بالتكتيكات الفرنسية العدوانية، مثل حفر ثقوب في القوارب واصفةً إياها بـ"اللحظة الحاسمة" في ردع عمليات التهريب.(3)
تشير الاتفاقيات الأخيرة بما في ذلك خطة تجريبية إلى تعاون أوثق لإعادة بعض المهاجرين إلى فرنسا مقابل قبول آخرين ممن لديهم مطالب مشروعة. ويشير هذا إلى أن المملكة المتحدة تستخدم نفوذها المالي لصياغة سياسة الهجرة الفرنسية، مما يثير تساؤلات حول المسؤولية المشتركة عن العواقب الإنسانية لهذه الإجراءات، بينما تحاول المملكة المتحدة التنصل من المساءلة.
علاوة على ذلك، قوبلت سياسات فرنسا الجديدة بانتقادات شديدة من وكالات الإغاثة ومنظمات المجتمع المدني، التي ترى أنها تنتهك التزامات فرنسا في مجال حقوق الإنسان وتهدد كرامة المهاجرين.
فرنسا التي قدمت نفسها كمدافعة عن القيم العالمية، تُعرّض مستقبلها كداعمة لحقوق الإنسان للخطر. وقد وجد تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2024 أن السلطات الفرنسية والبريطانية قد فشلت في القيام بواجبها، حيث كان عام 2024 العام الأكثر دموية على الإطلاق لعبور القناة، حيث سُجّلت أكثر من 70 حالة وفاة.
كما وثّق الصليب الأحمر الفرنسي الظروف المزرية للمهاجرين في شمال فرنسا. وتفتقر المخيمات المؤقتة في المنطقة إلى الخدمات الأساسية كالمياه والصرف الصحي والرعاية الصحية. أدت عمليات الإخلاء المتكررة التي تقوم بها الشرطة من هذه المخيمات إلى تفاقم معاناة المهاجرين وتقييد وصولهم إلى المساعدات الإنسانية. وقد وُجهت انتقادات لإصدار أوامر ترحيل لمواطنين من دول مثل أفغانستان وسورية، حيث تُشكل العودة القسرية إليها انتهاكًا لمبدأ عدم الإعادة القسرية، باعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية اللاجئين لعام ١٩٥١. (4)
بالإضافة إلى ذلك، أدى التحول إلى الردع المادي إلى زيادة خطر وقوع كارثة إنسانية في القناة الإنجليزية. أفادت فرق الإنقاذ البحري أن المهاجرين يواجهون مخاطر أكبر في المراحل الأولى من العبور. أثار تصريح وزير الداخلية الفرنسي بأن هذه الوفيات "عواقب وخيمة" لإنفاذ القانون "الفعال" انتقادات واسعة النطاق وسلط الضوء على الفجوة بين الأهداف الأمنية والواقع الإنساني. قال الصليب الأحمر الفرنسي إن عدم وجود طرق هجرة آمنة وقانونية يدفع المهاجرين إلى استخدام طرق خطرة، غالبًا ما ينظمها المهربون في ما يسمى "قوارب الأجرة". هذا إلى جانب أساليب الردع الشرطية العدوانية التي حوّلت القناة الإنجليزية إلى معبر للموت.
تجدر الإشارة إلى أن فرنسا تواجه معضلة معقدة: من ناحية، فهي تحت ضغط أمني ومالي من بريطانيا، ومن ناحية أخرى فهي ملتزمة بالتزاماتها الأخلاقية والقانونية. دفع الضغط البريطاني فرنسا نحو إجراءات أكثر صرامة لمراقبة الحدود كما يتضح من زيادة تمويل الدوريات والاتفاقيات الثنائية. لكن فرنسا ملزمة أيضًا بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (التي تشترط إنقاذ الأشخاص المنكوبين) واتفاقية اللاجئين (التي تمنع الترحيل).
ومع ذلك، فإن تصعيد فرنسا في القناة يعكس اتجاهًا أوسع في سياسة الهجرة الغربية حيث حظي الأمن بالأولوية على حقوق الإنسان. وقد حذر المنتدى الاقتصادي العالمي من أننا قد ندخل حقبة "ما بعد حقوق الإنسان"، حيث تُحرك سياسات الهجرة المصالح الجيوسياسية والمراقبة التكنولوجية وتحصينات الحدود، بدلا من المبادئ الإنسانية. وتعكس تكتيكات مثل إغراق القوارب هذا التحول، حيث تُعطي الأولوية للردع على سلامة المهاجرين وكرامتهم.
يتجاهل هذا النهج الأسباب الجذرية للهجرة، والتي غالبًا ما ترتبط بالسياسات الغربية بما في ذلك التدخلات العسكرية والاستغلال الاقتصادي واللامبالاة بتغير المناخ في الدول غير الغربية. ومن خلال التركيز على الاستبعاد بدلا من إيجاد الحلول، تُخاطر الحكومات الغربية بتطبيع السلوك غير الأخلاقي باسم الأمن والحفاظ على الثقافة الوطنية.
ولمعالجة أزمة الهجرة يجب على فرنسا والدول الغربية الأخرى اعتماد نهج قائم على حقوق الإنسان، كما اقترحت الأمم المتحدة والميثاق العالمي للهجرة الآمنة، لضمان سبل منظمة وآمنة. يشمل ذلك إيجاد مسارات قانونية ومعالجة الأسباب الجذرية وضمان ألا تكون التدابير الأمنية على حساب الكرامة الإنسانية. لا يمكن تجنب هذه الكارثة الإنسانية واستعادة القيم الأوروبية المشتركة إلا بتحمل المسؤولية التاريخية وإعادة النظر في السياسة الخارجية، وإيجاد مسارات قانونية وإنسانية للجوء. وإلا ستستمر دوامة الأزمات والصراعات وستُقوّض القيم التي يدّعي الغرب الدفاع عنها.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال