لم تلبث هيئة تحرير الشام أن تطىء أقدامها دمشق، حينها أصدرت بيانات و وعود مبشرة من العاصمة، وكانت تلك البيانات تحت مسمى "قيادة العمليات العسكرية" آنذاك، تحمل وعوداً بتحرير الأسرى وإطلاق سراح المقاتلين في الجيش السوري السابق وعدم التعرض لهم، والمعاملة على مبدأ المواطنة واحترام حقوق الموطن دون النظر إلى طائفته أو قوميته أو عرقه و دينه.
استطاعت الهيئة القادمة أن تأخذ عقول الناس وتخطف مشاعرهم بحجة "تخليصهم من النظام السابق وظلمه واستبداده" ولكن وبعد مرور أقل من شهر على استلامهم سلطة البلاد، بدأت تظهر على ألسنة قاداتهم وعناصرهم ألفاظاً طائفية تؤجج الشرخ الأجتماعي، وبدأت ذرائع الأخذ بالثأر والانتقام واضحة في نهجهم تحت مسمى فضفاض " العدالة الانتقالية " ومصطلح " فلول النظام البائد " وغيرها من المسميات الأخرى أطلقت على شرائح واسعة من مكونات الشعب السوري، وهنا يجب أن ننوه إلى نكث العهود والمواثيق من قبل هيئة تحرير الشام منذ بداية استلامها السلطة حتى تاريخنا الحاضر بسبب الفظائع التي ارتكبتها خلال عام من الاستلام والتسليم.
اسلوب العنف والشتم الطائفي ضد مختلف مكونات الشعب وانتهاك حقوق الإنسان
لقد أظهرت قوات هيئة تحرير الشام مجدداً نهجها الطائفي المعادي للمدنيين العزل بعد استحواذها على السلطة والبدء بتثبيت أركان حكمها من خلال فرض سياسة القبضة الحديدية على مختلف مكونات الشعب والطوائف الأخرى وخاصة اتباع آل البيت الشيعة ومعهم العلويون وحتى الإسماعيليون والدروز والأكراد، وليس أخرها كان تدميرهم منازل مدنيين شيعة في حي المزرعة وهي أحد ضواحي محافظة حمص من جهة الغرب.
في الواقع هناك الكثير من الانتهاكات التي تسجل يومياً بحق الشعب السوري، من سبٍ وشتمٍ طائفي وصولاً إلى خطف النساء واعتقال الشبان بدون أي تهمة أو مذكرة قضائية، والكثير من الاساليب الممنهجة ضد أقليات المجتمع السوري.
ليس مستغرباً أن عناصر السلطة الحالية التي كانت تنضوي تحت فصائل ومسميات مختلفة تابعة لجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام سابقا، وهذا النهج الذي يمارسونه هو موروث عندهم من فكر متطرف وسلفي يكفر الطرف الآخر ويتعامل معهم ككفار أو من تجوز عليهم الجزية، وهذا من الطبيعي ان يلغي أسلوب التعامل بمبدأ المواطنة او حتى الإنسانية وهي أبسط حقوق البشر.
في تقرير صحفي يقول المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ثمين الخيطان: " ما زلنا نتلقى روايات مروعة عن عمليات إعدام بإجراءات موجزة، وقتل تعسفي وعمليات اختطاف، تستهدف بشكل رئيسي مجتمعات بعينها وأشخاصا متهمين بالانتماء إلى الحكومة السابقة". وأفاد المتحدث باسم المفوضية بأن الانتهاكات والتجاوزات الأخرى المبلغ عنها تشمل العنف الجنسي، والاعتقالات التعسفية، والنهب، وتدمير المساكن، والإخلاء القسري ومصادرة المنازل والأراضي والممتلكات، فضلا عن قيود على حرية التعبير والتجمع السلمي. وأوضح أنه في العديد من هذه الحالات، طالت أعمال العنف بشكل رئيسي مجتمعات معينة، بمن فيهم العلويون، والدروز والمسيحيون، وتغذت هذه الأعمال على خطاب الكراهية المتصاعد سواء على الإنترنت أو في الشوارع. [1]
هذه المشاهد من الانتهاكات تتكرر كل يوم تقريباً على كامل الجغرافيا السورية التي تسيطير عليها هيئة تحرير الشام، ومازال من المبكر جدا الحديث عن تغيير جذري في سياسة الترهيب والعنف التي نمت عليها تلك العناصر والقادة التي تحكمها، وهناك افادات كثيرة من المواطنين أنفسهم أن تعيين مثل هؤلاء في مناصب عليا وقيادية في الدولة كان على مبدأ الولاء للجولاني ولهيئة تحرير الشام سابقآ وليس على مبدأ الكفاءة المطلوبة للعمل أو المسؤولية التي تقف على عاتق المسؤول، ضف إلى ذلك أن من يحكم فعلياً داخل أجهزة الدولة هم مشايخ وأمراء وليس أشخاص عاديون أو مدنيون. وأول ما لاحظه السوريون بعد انهيار النظام السابق هو التغيّر في لغة السلطة من “أمين الفرع”؛ اللقب الذي ارتبط لعقود بقبضة البعث الأمنية على البلاد، ليحل مكانه لقب الأمير، “أمير الفرع” أو “شيخ الجماعة”.[2]
التحشيد ضد الشعب بدل المحتل الصهيوني
بينما تمارس هيئة تحرير الشام ضغوطاً ومضايقات على أناس مدنيون عُزّل، لا يُلاحظ أي تحرك فعّال ضد الكيان الصهيوني؛ وهو أمر يثير تساؤلات جدية حول أولويات هذه الجماعة وآليات عملها الحقيقية، وهذا سؤال برسم الشعب السوري الذي بات يعري السلطة الحالية والتي جاءت كأمر واقع فرضه المجتمع الدولي ضمن صفقة استلام وتسليم حتى تسهل عملية التطبيع مع المحتل الإسرائيلي وتوسيع سيطرته على الأراضي السورية وإضعاف وكسر محور المقاومة.
الكيان الإسرائيلي بات على بعد بضع كيلو مترات من العاصمة دمشق، ولا أحد يكترث أو يخرج ببيان احتجاج أو اعتراض على سياسة نتنياهو في سورية، في كل يوم يتقدم الجيش الإسرائيلي في الجنوب قاضماً المزيد من الأراضي تحت نفوذه، ويقيم حواجز له على مداخل المدن حول القنيطرة وريف دمشق الجنوبي [3]، وكأن سكوت السلطة الحالية هو بمثابة إقرار موافقة بهذا الإحتلال، ومازالوا يتحدثون عن إقامة محادثات مع إسرائيل من أجل اتفاق أمني يحفظ أمن اسرائيل، كل ذالك ولا ترى مشهداً واحداً لعنصر من سلطة الجولاني يبدي مقاومة ضد عناصر الجيش الإسرائيلي.
لقد أصبح الإحتلال الإسرائيلي صديقاً مرحباً به ومن المحرم مواجهته بأي شكل من أشكال المقاومة، وأما اعتراض أحد افراد الشعب على سياسة السلطة وانتهاكها الأعراض والحقوق الإنسانية فهو محرم ويعتبر جرم لايغتفر عند سلطة الأمر الواقع.
انعدام الأمن وتعميق الانقسام الاجتماعي
لطالما كانت سورية بلد العيش المشترك وبلد التحرر والمدنية والمواطنة الحقيقية، وتاريخ سورية يشهد بذلك طيلة عشرات السنين بعد تحقيق استقلالها، مالايعرفه هؤلاء الذين جاؤوا من هوامش التاريخ وحظائره المليئة بالعفن والتطرف والإرهاب هو أن سورية للجميع وبلد التآخي والاسلام المعتدل السليم والصحيح الذي لاتشوبه شائبة، وأما ما جاؤوا به لايمت للإسلام بشيء، المجازر التي ارتكبتها هيئة تحرير الشام والفصائل التي ساندتها مع تحشيد العشائر ضد الساحل السوري وضد السويداء واستشهاد آلاف الأبرياء على أيدي هؤلاء المجرمين أوجد جرحاً كبيراً جداً يصعب إلتئامه بين مكونات الشعب السوري وخلق ردات فعل اجتماعية طبيعية جعلت المجتمع ينقسم بين مؤيد لهم ومعارض لتلك الانتهاكات السافرة بحق الإنسانية. إن مثل هذه السلوكيات لن تجعل هذا البلد آمناً على الإطلاق،بل تُفاقم الانقسامات الدينية والاجتماعية وتُعمّق الأزمة الإنسانية في سورية[4].
الخلاصة
ماتحدثنا عنه من انتهاكات السلطة الحالية في سورية هي نفسها سياسة هيئة تحرير الشام في ادلب سابقا، وهي سياسة فاشلة لاتصلح لقيادة بلد مثل سورية، ربما يصلح ذلك داخل مخيمات داعش والفصائل المتشددة في شمال ادلب من الأجانب الذين جاؤوا للجهاد في سورية تحت راية هيئة تحرير الشام وجبهة النصرة، فهناك الفكر المتطرف الذي يطابق ممارسات هذه السلطة وقد يكون من الصعب أن يجتمع الطرفان في مكان واحد.
سياسة الترهيب والوعيد التي تنتهجها سلطة الأمر الواقع بقيادة الجولاني وانس خطاب "وزير داخليته" سياسة قمعية استبدادية متطرفة لدرجة نفي الآخر وكل من يتعارض معهم بالفكر والسياسة والمذهب، حتى أئمة الجوامع التي كانت تخطب بالناس خطاباً دينياً سلمياً معتدلاً تم تغيرهم واستبدالهم بمشايخ سلفيين تمتلىء خطاباتهم بالطائفية والتحريض ضد الآخر وتعزز الانقسام والحقد.
لاشيء تم تنفيذه من الوعود التي أطلقتها هيئة تحرير الشام منذ استلامها السلطة، ولا أمل في تحقيق أيٍ منها، في ظل هذه السياسة الممنهجة وتسلط القوي على الضعيف والابتعاد عن أي مظهر من مظاهر المواطنة والانتماء للبلد، أصبح كل سوري يشعر بأن سورية هي فقط للأكثرية الحاكمة ولا وجود لغيرهم أو ان تكون مواطن من الدرجة العاشرة في نظرهم، فلا ديمقراطية ولا مواطنة ولا تعدد الحريات موجود في قاموسهم الطائفي. لقد قرأ الشعب السوري الفاتحة على روح سورية منذ أن جاءت هذه السلطة، وإلى أن تقوم من بين الأموات ندعو أن يحفظ الله ماتبقى منها إلى يوم القيامة.
محمد يزن الحمادي